30‏/11‏/2010

عن كونتن تارنتينو و بلب فيكشن وأشياء أخرى


عقب انتهائي من مشاهدة فيلم "بلب فيكشن" شعرت بأني قد تعرضت لخدعة ما؛ فقد كنت أعِدُ نفسي قبله بساعتين من التمتع السينمائي العظيم، ولكني باستثناء الإعجاب بطريقة السرد لم أعجب بشيء آخر؛ إذ أن هذه النوعية من الأفلام لا تروق أمثالي ولاتجذبهم، كما أن الفيلم لا يحوي أيَ عمقٍ في الفكرة.
عند هذه الجملة الأخيرة تحديداً -"أن الفيلم لا يحوي أيَ عمقٍ في الفكرة "- توقفت، وتذكرت كلمة قالها أحدُ الأصدقاء -ساخراً من مدعي العمق- لصديق آخر كتب تدوينة ساخرة، قال :لِمَ لم تكتبْ في مقدمة مقالك :طالبو العمق يمتنعون عن قراءة هذا المقال. تذكرت الكلمة وسخرت من نفسي كثيراً وبدأت أفكر في الفيلم من زاوية مختلفة. أول ما نظرت إلى اسم الفيلم" Pulp Fiction"ونظرت كذلك للملصق الدعائيّ للفيلم، أما الاسم فهو مصطلح أمريكي يُطلق على نوع من الكتابات موضوعها دائماً هو رجال العصابات والأبطال الخارقين .... إلخ، وتُطبع هذه المجلات على ورق خشن داكن غير مكتمل الصنع، كما أن هذا المصطلح يقترب كثيراً من معنى كلمة "بوب أرت" ويُقصد بها الكتابات الموجهة للعوام من غير ذوي الثقافة أي"الشعبية"। أما الملصق الدعائي للفيلم فهو مصمم على شكل غلاف إحدى هذه المجلات تظر فيه "أوما ثورمان" ممسكة بمجلة من نوعية الـ "بلب فيكشن" . لم يكتفِ تارنتينو بذلك، بل أورد هذا المعنى الذي أوضحته لك في افتتاحية فيلمه، أي أن الرجل يقسم لنا برأس أبيه أنه سوف يقدم في فيلمه هذا عملاً سينمائياً يقوم بالأساس على هذا النوع من الكتابات وليس عملاً ذا عمق و أبعاد.


على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق فإن المشاهد الـ (عميق!!) لا يملك إلا أن يستمتع بالعمل بهذه الطريقة أو أن يمتنع عن مشاهدته بالكلية، أما أن (يركب دماغة) -مثلما فعلت أنا- ويحاول أن يقيم الفيلم بنفس التناول المتبع مع أفلام "فرانسيس فورد كوبولا" مثلاً فهذا دربٌ من الغباء المتحجر. يقول "د. أحمد خالد توفيق" بهذا الصدد أنه مثل أن تحضر مباراة لكرة القدم تتبعها بأخرى للتنس ثم تتعجب من أن لاعبي التنس يضربون الكرة بالمضارب بدلاً من الأقدام، بل وتتعجب كذلك من حجم الكرة وشكل الملعب الذي تقطعه عرضاً شبكة تقسمه إلى نصفين، لكل لعبة قواعدها وشكلها الخاص بها ولا يمكن أن تحكم على إحداها بقواعد الأخرى.

يقول "أنيس منصور" أن القطع الفنية تشبه ثمرات الفاكهة، يجب أن تعرف طبيعة كل ثمرة منها كي تختار الطريقة المناسبة لتناولها؛ فالبعض تأكله بيدك مباشرة، والبعض الآخر يحتاج سكيناً أو شوكة أو ملعقة، بعضها يحتاجُ تقشيراً أو تكسيراً أو أن تعصره....إلخ. على هذا الأساس يجب أن يكون تعاملنا مع أفلام السينما؛ فمعالجة مخرجين لنفس الفكرة تنتج أفلاماً مختلفة بشكل تام عن بعضها، مثلاً معالجة "فكرة التلصص على الجيران من النافذة" أخرج منها "ألفريد هتشكوك" فيلم"نافذة خلفية" الفيلم الذي يعد تحدياً يُدرًّس لبناء حكاية فيلمية كاملة من زاوية بصرية واحدة تُوضع فيها الكاميرا طوال الفيلم، بينما عند "كريستوف كيسلوفسكي" كان فيلمه المسمى بـ "فيلم قصير عن الحب" وهو قطعة شعرية جميلة من قطع "كيسلوفسكي" تختلف بشكل مطلق عن معالجة "هيتشكوك" . كما أن مُراد المخرج من صناعته للفيلم يحتم علينا تغيير نظرتنا من فيلمٍ لأخر؛ فيستحيل أن نقيم فيلم "غير مغتفر" لـ "كلينت إيستوود" بنفس المعايير التي نضعها عند مشاهدة فيلم "الطيب والسيئ والقبيح" لـ "سيرجيو ليوني"، بل أن أفلاماً لنفس المخرج ربما تختلف عن بعضها بشكل مطلق؛ فأفلام مثل "الفك" و "قائمة تشاندلر" و "ذكاء اصطناعي" و "حديقة العصر الجوراسي" جميعاً من إخراج "ستيفن سبيلبيرج" ولكن لكلٍ منها طريقته في التحليل والتناول.

الخلاصة أن كلَ مخرجٍ مبدعٌ بطريقته وكلاً منهم عظيمٌ في دربه الذي ينتهجه، "إنجمار برجمان" و "ألفريد هيتشكوك" كلاهما من أعظم عشرة مخرجين في تاريخ السينما، ولكن مقارنة أعمال أحدهما بأعمال الآخر تُعد درباً من إضاعة الوقت و الجهد.

وبهذه الخلفية الجديدة أعدت تأمل فيلم "بلب فيكشن" فكان أول ما لفت انتباهي هو نفس موطن إعجابي السابق، طريقة السرد السينمائية المتبعة في الفيلم. تدور أحداث الفيلم في الفترة الزمنية الواقعة بين صباح أحد الأيام و صباح اليوم الذي يليه، تقع خلال هذه الفترة عدة مواقف يتم عرضها على الشاشة بدون الالتزام بالترتيب الزمني لحدوثها مع عرض بعض هذه الأحداث من خلال وجهتي نظر مختلفتين (تقنية البوليفونيك ) وقد استخدم المخرج هذه التقنية أكثر من مرة خلال الفيلم، كما أن النص مقسم إلى عدة مقاطع لكل منهم عنوان وبطل، فبطل أحدها هو "تيم روث" بينما "بروس ويلز" هو بطل مقطع آخر ومقطع ثالث بطلاه هما "ترافولتا" و "أوما ثورمان"، أما البقية فكانت بطولتها من نصيب "جون ترافولتا" و"صامويل ل. جاكسون"، وبين هذه المقاطع يقفز الأبطال، فنرى "بروس ويلز" يظهر بشكل ثانوي في مشهد رجوع "ترافولتا وجاكسون" إلى البار حيث ينتظرهم رئيس العصابة "مارسيلاس والاس" ولا يظهر ثانية في بقية هذا المقطع من الفيلم ونشاهد أوما ثورمان (ميا) كشخصية رئيسية في مشاهد سهرتها مع ترافولتا (فينسنت فيجا) وبعض قليل تظهر بشكل ثانوي طفيف في مقطع تالٍ من الفيلم وهو نفس المقطع الذي يظهر فيه "ترافولتا" ككومبارس صامت يقتله المصارع بوتش (بروس ويلز) في ثانية واحدة .بلغ "تارنتينو "قمة الإتقان في استخدام هذه التقنيات عند مشهد نهاية الفيلم الذي لم يكن سوى استكمالاً لافتتاحيته وإعادة سرد لها من منظور بطل مختلف.

قضى "كونتن تارنتينو" سنوات من شبابه يعمل في مستودع لأفلام الفيديو، شاهد فيها عدداً ضخماً من الأفلام مما جعله على دراية تامة بـ "كلاشيهات" أفلام الحركة والعصابات، وقد قدم في فيلمه هذا العديد من المواقف التي يسخر فيها من هذه الكلاشيهات خاصة التي تخص رجال العصابات المحنكين!! بل بلغ به الحد إلى إهانتهم في بعض مشاهد الفيلم. من أجمل هذه الصور الساخرة هي لقطة النهاية التي نرى فيها "جون ترافولتا" و"صاومويل ل. جاكسون" يخرجون من المطعم وكلٌ منهم يضع مسدسه في الشورت!!، كما نراهما في مشهد آخر يتلويان –وهم الرجال شديدو المراس- من المياه التي يرشها "هارفي كيتل"، ناهيك عن الكم الهائل من الألفاظ النابية التي يزخر بها حوار الفيلم، وهو بالمناسبة حوار يخلو من أية دلالات لكنه شديد الواقعية والجودة والإمتاع، يصر المخرج على سخريته التي تصل إلى حد إهانة هؤلاء المجرمين؛ فها هو الزعيم الأسود الضخم يتم اغتصابه، وآخر-فينسنت فيجا- يتم قتله بمنتهى البساطة ويسقط قتيلاً في دورة مياه، أما الشاب الواثق بنفسه-تيم روث- فنراه في المشهد الأخير يخرج مع فتاته من المطعم في حالة يُرثى لها. لم ينجُ من هذا السيل من السخرية سوى المجرم التائب "صامويل ل. جاكسون".

هناك مبدأ معروف أن (الكذبة) التي لها تفاصيل يصعب إنكار مصداقيتها، هذا القاعدة يفهمها بوضوح "تارنتينو" بل أنه صرح بها على لسان أحد الشخصيات الثانوية في فيلمه الأول"كلاب المستودع" عندما أخبرت هذه الشخصيةُ الشرطيّ المتخفي-السيد أورانج (تيم روث)- أن يحكي للعصابة حكاية رجال الشرطة الذين وجدهم يتجاذبون أطراف الحديث في إحدى دورات المياه بمحطة القطار أثناء عملية تهريبه لكمية كبيرة من المخدرات وكيف تصرف معهم بأنه لم يهرب بل دخل لقضاء حاجته وكيف أنه استفزهم كذلك। هذه الحكاية تحوي تفاصيل وتحوي كذلك نقاط ضعف إذ أنه من غير المُقنِع أن يسير أي مهرب بكمية كبيرة من الماريجوانا ويتجول بها هكذا في الشارع ومحطة القطار، كما أنه من غير المقنع أن يمضي هذا المهرب في هدوئه إلي الحد الذي يجعله يستفز رجال الشرطة، ولكن هنا يظهر المبدأ الثاني الذي ينص على أن نقاط الضعف في الحكايات تجعلها أحياناً أكثر قابلية للتصديق. هذان المبدآن يفهمهما المخرج السينارست لذلك نجد أن لهما بالغ الأثر في صناعته لتفاصيل الشخصيات وبعض الانحناءات في سيناريو الفيلم.

أما عن التفاصيل في شخصيات "تارنتينو" فهي تظهر بوضوح منذ فيلمه الأول "كلاب المستودع" بخاصة في شخصية السيد (بلوند) المجرم السادي الذي يستمتع بتعذيب أحد رجال الشرطة ويقطع أذنه ويشرع في حرقه حياً كل هذا وهو يستمع إلى أحد الأغنيات المرحة التي تنبعث من الراديو، تستمر هذا التفاصيل كذلك في "بلب فيكشن" ونراها في شخصية صديقة "بروس ويلز" البلهاء ذات الملامح الفرنسية الطفولية وطريقتها الساذجة الحديث، ونراها كذلك في شخصية سائقة التاكسي التي قامت بتوصيل "بروس ويلز" بعد انتهاء المباراة، فتاه ذات اسم غريب وشكل غريب ولكنة عجيبة، وكذلك زوجة بائع المخدرات التي تضع في وجهها عشرات الحلقان، أما أوضح الأمثلة فهي شخصية السيد"وولف" (هارفي كيتل) المجرم الهادئ المنظم الذي يعرف ما يفعل جيداً.

تفاصيل وتفاصيل ... هذا هو أبرز ما يميز سينما هذا المخرج الذي صنع علاماته الخاصة أو بكلمة أخرى فنحن نستطيع أن نقول بكونه قد نفض عنه كلاشيهات الآخرين ليصنع كلاشيهاته الخاصة به.

أما عن القاعدة الثانية الخاصة بنقاط الضعف في الحكايات فنحن نراها في أكثر من موضع في هذا الفيلم، الرجل الذي يطلق على ترافولتا وجاكسون وابلاً من الرصاص دون أن يصيبهما ولو بجرح، المقابلة الغير منطقية لـ"بروس ويلز" وزعيم العصابة في الشارع، كل هذا ينجح "كونتن تارنتينو" بطريقة عجيبة في جعله مقنعاً بل سبباُ في جعل أحداث الفيلم أكثر منطقية.

كما اتفقنا مسبقاً أن الفيلم هو قطعة من الـ "بلب فيكشن" بلا أي نية لإنتاج شيء له أبعاد ودلالات، ولكننا نلحظ كذلك أن هناك أشياء تستحق الالتفات دون أن يكون لها عمق ما، ولكنها موجودة بالفيلم،أشياء -كما يقول أحد الأصدقاء- تشبه قصص أجاتا كريستي التي تنشط العقل ليعمل في ملاحظات لا يميزها سوى كونها طريفة تستحق الانتباه.

مثلاً نلاحظ أن الجرائم تحدث غالباً في وقت الصباح قبل الإفطار، "ترافولتا" و"جاكسون" قتلا أربعة أشخاص ثم ذهبا لتناول الإفطار وأثناء الطعام يتعرض المكان لمحاولة سرقة بالإكراه. "بروس ويلز" خرج لاسترداد ساعته لكنه قبل أن يعود يقتل شخصين ويتعرض وزعيم العصابة "مارسيلاس والاس" لمحاولة اغتصاب ... هكذا ببساطة تامة وكأنها أمور اعتيادية يفعلها (الأمريكان) يومياُ قبل الإفطار.

نلاحظ كذلك جون ترافولتا في دورة المياه يقرأ مجلة من نوعية الـ "بلب فيكشن" ويخرج ليجد كارثة في انتظاره، تكرر هذا الموقف ثلاث مرات خلال الفيلم.

نقطة طريفة أخرى ولكني لم ألحظها إلا بعد أن نبهني إليها أحد الأصدقاء، وهي أن هناك تدرج في أفعال الخير التي يؤديها الأشرار، أول هذه الأفعال هو امتناع "فينسنت فيجا" عن إقامة علاقة مع "ميا" زوجة الزعيم، وكان ذلك بسبب خوفه من زوجها، ثاني هذه الأفعال كان قيام الملاكم "بوتش" بإنقاذ زعيم العصابة "مارسيلاس والاس" من قبضة الشرطي الشاذ، وكان دافعه وراء ذلك هو أن يقدم المساعدة له أملاً في أن يعفوَ عنه، ثالث هذه الأفعال هو امتناع "صامويل ل. جاكسون" عن قتل "تيم روث" بل أعطاه بعض المال بدلاً من ذلك، ولكن دون دافع من وراء الخير هذه المرة، فعلها فقط كبداية لطريق التوبة. وهكذا نرى التدرج في فعل الخير من أجل تحقيق مصلحة أو دفع ضرر في الموقفين الأول والثاني إلى مرحلة الخير للخير التي تظهر في الموقف الثالث.

السيطرة على الممثلين كانت أحد أبرز عناصر الإجادة في صناعة هذا الفيلم، والسيطرة هنا لا تعني استخراج أقصى قدرات الممثل؛ ولكنها تعني الاستفادة من عنصر التمثيل في وصول المخرج لهدفه من وراء صناعة الفيلم وهو أمر صعب في ظل التعامل مع هذا الكم من النجوم ذوي الأسماء التجارية الجاذبة للجمهور.

هناك الكثير من التفاصيل والملاحظات التي يعمر بها "بلب فيكشن" أو التي تعمر بها سينما "كونتن تارنتينو" بوجه عام، ولكني أكتفي بما قلت. ونهاية أود أن أشير إلى أن كتابة هذا المقال لم تكن سوى محاولة اعتذار أقدمها لهذا الفيلم وصانعه الموهوب عن اندفاعي في الحكم عليه بشكل خاطئ عند مشاهدتي الأولى له، فهو نص متماسك للغاية بلا أخطاء تقريباً, وطريقة سرد رائدة ظهرت على شاكلتها الكثير من أعمال النصف الثاني من التسعينات و العقد الأول من هذا القرن، كما أظن أنها أثّرت في عقلية أسماء إخراجية لامعة مثل "كريستوفر نولان" و "أليخاندرو جونزاليس إناريتو"، ولذلك أو على ذلك فإني لم أقدم مقالاً نقدياً للفيلم بل هي رؤية عامة حوله ومحاولة لإبراز مواطن إعجابي به.

كتبه : أحمد مجدي رجب

القاهرة 2010

هناك تعليق واحد:

  1. حينما تحدثت معك لأول مرة على التشات على "فيس بوك" لم تبد إعجابًا بالفيلم! فتعجبت! ثم قلت لنفسي : لعله اختلاف الأذواق ! ثم هممت بمشاهدة الفيلم مرة أخرى ! وزاد إعجابي به! فكما قلتَ طريقة السرد في الفيلم "عبقرية" إن صح التعبير!

    وأثناء مشاهدتي للفيلم لفت انتباهي التناقض الذي استعمله تارنتينو كنوع من السخرية من أولئك المجرمين!

    كما أنه تناول أحداث الفيلم بطريقة من "البرود" التي تخدم هدفه الساخر في معظم المشاهد تقريبًا!

    وأخيرًا، كان هذا أول مقال أقرأه لك ولكني تعلمت واستفدت منه الكثير!

    وشكرًا ..

    عمرو الفقي

    ردحذف