30‏/11‏/2010

بنتين من مصر، تنويعات شخصية على رثاء الحياة


لم يكن في تصوري أن المخرج محمد أمين سيجود بشئ كهذا في يوم ما. استعراض سريع لأفلام المخرج يزيد من تأكيد هذه الفكرة المسبقة،كان ظهور الأول من خلال (فيلم ثقافي) في العام 2000 كوميديا عن الكبت الجنسي تستعرض محاولة شباب البحث عن مكان لمشاهدة شريط فيديو جنسي ، وهو الفيلم الذي لفت الأنظار اليه كمخرج وسيناريست ذو مستقبل لامع لكن مع ذلك فان شخصياته كانت تميل الى نماذج كاريكاتورية أكثر منها واقعية..ثم كان الانتظار لخمس سنوات حتى العودة بأسوأ أفلامه على الاطلاق (ليلة سقوط بغداد) وهو نوع من الربط بين هاجس الاحتلال لمصر الذي يراود ناظر مدرسة عجوز إبّان غزو العراق وبين الأزمة الجنسية (تيمته المفضلة) التي تلاحق الشباب وتمنعهم من تحقيق أي تقدم في حياتهم..الى ذلك الحين كانت أفلامه تتسم بجدية الأفكار المطروحة لكن بضعف ملحوظ على مستوى الكتابة (مع تفاوت بين العملين) و لكن الضعف الأكبر كان على مستوى الاخراج حتى جاء بعدها بخمس سنوات أخرى وقدم هذا العمل الذي يشي عن حق بولادة جديدة لمخرج نضج فنيا بشكل ملحوظ..

منذ اللقطة الأولى هنا تشعر أن هناك شئ مختلف طرأ على اسلوب المخرج في التعامل مع الكاميرا و المكان..لقطة بعيدة لغلاية داخل سفينة ،نلاحظ ازدياد مؤشرات الضغط،مع استخدام كولاج (مزج) للقطات من مظاهرات احتججاجية عديدة .. لقطة ستتكرر أكثر من مرة على طول الفيلم الذي سنكتشف مع قرب نهايته حقيقة معناها،لكن منذ البداية يبدو الرمز جليا فالضغط المتزايد ما هو الا معادل للضغط الممارس على فئات الشعب المصري،سياسيا واجتماعيا..وغرق السفينة قرب النهاية هو الغرق الذي يتنبأ به الفيلم اذا استمر الوضع على ما هو عليه.

سيناريو محمد أمين يستعرض بشكل متوازي حياة حنان و داليا،بنات عم قد تجاوزن الثلاثين من العمر دون زواج، الأولى أمينة مكتبة و الثانية طبيبة و كلاهما تحملان حلما مشتركا وهو الزواج..حنان تشتري قمصان النوم وتسجل عليها تاريخ الشراء على أمل أن ترتديهم يوما ما، تطلب من زميلتها (الساعّية) في العمل أن ترضع طفلها و ان لم يكن يوجد في صدرها حليب..تخيلها لكل رجل يعجبها أنه بالفعل زوجها في لقطات(فلاش فوروارد) متكررة يؤكد على كلامها بأن مشكلتها الأساسية ليست الاحتياج الجنسي،و إنما اشباع غريزتها العاطفية بعد أن وصل بها اليأس الى تقبل أن تذهب الى عيادة للكشف على عذريتها أمام من يريد أن يخطبها قبل أن يرجع في رأيه متعللا بخوفه وشكه في كل النساء.
داليا لا تختلف كثيرا في تفاصيل حياتها،فهي تكتفي يائسة برسم أحلامها العاطفية على الورق متنظرة أن ينصلح الحال،وهي تعتبر أن أي تقدم في حياتها لا يمكن دون يحدث دون الزواج وإشباع غرائزها الأساسية،فهي على مدار ست سنوات لم تتمكن من انهاء رسالة الماجستير بالرغم من كونها التاسعة على دفعتها و الأولى في الدبلومة بعد التخرج. حتى انها تضطر الى الاشتراك في حركات المعارضة -بناء على نصيحة صديقتها حنان-فقط لتتمكن من إيجاد عريسا مناسبا. على جانب آخر هناك (فريدة) وهي امرأة تقدم بها العمر دون زواج،صورتها وهي وحيدة هي الهاجس الذي يطارد حنان وداليا،هاجس أن يمضي بهما القطار لتصيرا مثلها وحيدتان ليس لهما الا ممارسة (التريكو) لقتل الوقت..و هو الذي يدفع حنان للبحث عن زوج بأي طريقة حتى وإن تنازلت عن المهر والشبكة و اقامة عرسها على من يكبرها بأعوام كثيرة حتى و إن أقام معها ووالدتها في الشقة. و حول هذا الثنائي ينسج السيناريو شخصيات ذكورية لا تقل ضعفا ، فالهجرة قاسم مشترك يبحث عنه كل الرجال في الفيلم بدءا من العرسان الذين امّا يعمل أحدهم في الخليج و امّا يسعى للعمل هناك، أو ابن خالة حنان الذي نراه قرابة النهاية بقليل يبصق في منديلا يرميه خلفه في أرض المطار بعد أن تحقق له حلم الهجرة أخيرا ، و شقيق داليا الذي تغرق به السفينة مع صديقه و يعود أكثر عجزا مما بدأ..ثم هناك ذلك ال(لا منتمي) الذي تتعرف عليه داليا عن طريق الانترنت و هو يمثل هنا فكرة أكثر منه شخصا..فهو الذي شاهد صور صديقه بعد أن عذبه الأمن قرر بعدها أنه لن يتزوج أبدا حتى لاينجب من يصبحوا في موقف صديقه هذا يوما ما.. حتى الشخص الوحيد الذي يبدو على استعداد للاستقرار والبقاء في البلاد يضطر الى السفر هاربا بعد أن فشل في تسديد قروضه للبنوك التي حصل عليها لاستصلاح أرض زراعية، رغم نجاحة في الزراعة بالفعل ووصوله الى نوع من الطماطم غير موجود في مصر، مشكلة السيناريو الأكبر تمثلت في الاعتماد المباشر على الحوار الذي وصل في بعض الأحيان الى حد المباشرة في الطرح..كما التعميم الذي أصبغه على الجهات الأمنية بتسميتها (جهة سيادية) كما استخدام تعبيرات مثل (المعارضة) و (الحكومة) بشكل مجرد - ولو اني أعتقد أن المخرج لجأ الى هذا الحل لأسباب رقابية - كما الموقف السياسي المشتت للفيلم مع تكرار الآية القرآنية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) في أكثر من موضع دون العمل على تأكيد معنى استخدام الآية،لو أني أعتقد أن تهميش الجانب السياسي هنا نابع بالأساس من انعدام علاقة الشخصيتان الرئيسيتان بالسياسة في حياتهما.

على مستوى الاخراج فالفيلم بكل تأكيد -كما ذكرت- الأكثر نضجا في مسيرة مخرجه، هناك تقديم لشخصيات رئيسية وفرعية بالغة الثراء مع التركيز على الأبعاد الواقعية بعيدا عن نزعة المخرج الكاريكاتورية التي شابت أعماله السابقة،هناك تعامل مع الكاميرا بمنظور مختلف خصوصا في لقطات تخيل حنان زواجها بالرجال التي تقابلهم، أو مشهد ارضاعها لطفل زميلتها، أو الجزء المصور في الأرض الزراعية المستصلحة،مشهد الكشف على عذرية حنان، كما تعامله مع مشهد البحث عن شقيق داليا بين قتلى السفينة الغارقة الذي كان يمكن أن يتحول الى ميلودراما فجة لولا الرقة الشديدة التي تعامل بها أمين في استخدام الكاميرا و آداء الممثلين..لكن على ذلك فقد شاب النصف الأول من الفيلم نوع من انعدام الاحساس بالزمن،وانتقال الأحداث بشكل سريع الكتروني دون منحنا لحظات كافية للتأمل و التفكير في سير الأمور، ساعد على ذلك أيضا الاعتماد المبالغ فيه على الحوار الذي كان يمكن الاستغناء عنه لحساب الصورة في كثير من الاحيان ،لكنه نجح في تلافي معظم هذه المشكلات في النصف الثاني من الفيلم. و تبقى الحلقة الأقوى في الفيلم هنا آداء الممثلين ،لا يوجد ممثل أقل من المستوى هنا، الثنائي الرئيسة هنا (زينة) في شخصية حنان، و (صبا مبارك) في شخصية داليا قدمتا تعاونا مدهشا على مستوى الآداء و ان كانت صبا مبارك مشهود لها بالاجادة في أعمالها السابقة،فزينة تقدم أفضل آداء لها على الاطلاق تفوقت به على ما قدمته في (واحد-صفر)،سلوى محمد علي لا تقل في مستوى الإجادة رغم قلة مساحة دورها لكنها نجحت تماما في تقديم صورة المرأة العانس التي تقدم بها العمر وحيدة.كما قدم (أمين) نماذج بالغة الثراء على مستوى الآداء الرجالي،طارق لطفي ظهر بشكل أكثر من رائع في شخصية (جمال) المهندس الزراعي الذي يحلم بالاستقرار و زراعة الأرض،أيضا التميز الذ أظهره (رامي وحيد) في آداءة لشخصية للمعارض الذي ينقل أفكارهم لحزب الحكومة كي يقوموا بتجهيز ردود عليها..لكن المفاجأة الكبرى في رأيي كانت من نصيب الثائر (اللا منتمي) - جمال أيضا (معظم الشخصيات الذكورية بهذا الاسم تأكيدا على فكرة تشاركهم في نفس المأساة)، حديثي عن الممثل أحمد وفيق الذي قدم تشخيصا ثائرا بحق للرافض لكل شئ المنعزل عن مجتمعه مكتفيا بالبقاء لساعات طوال باثّا احتاجه عبر الانترنت،يكفي أن تراقب تحكمه في انفعلاته في مشهد اعتقاله لكي تدرك أنك أمام طاقة ابداعية متفجرة قدمها محمد أمين هنا بجدارة..أيضا لا أفوت الاشادة بالموسيقى الرائعة التي قدمها (رعد خلف) و التي أكاد أجزم أنه لم يقدم مثلها على امتداد مشواره الفني كله..وهذا ان دل فهو يدل على وجود مخرج أصبح على درجة عالية من التمكن من استخدام أدواته و التعبير بها عن هاجس يمر بمعظم (الثائرين-السلبيين) في هذه الأيام،ليس الهاجس هو العنوسة ولم يكن هو الهجرة أيضا..بل كان هاجس(الاحساس بالحياة) الذي طالما حاولنا الوصول اليه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق