27‏/02‏/2011

سارقو الدراجات




كتب د.أحمد خالد توفيق مقالاً عن صداقة جمعت بين "سايس" سيارات ومندوب مبيعات "صينى" ، وكتب عن لغتهم المشتركة التى لم تكن بالطبع العربية أو الصينية، ولكن سمة لغة جمعت بينهم، هى التى جمعت شعوب الأرض لمشاهدة عمل كفيلم سارق الدراجة! تلك اللغة هي لغة الفقر والكفاح والنضال، لا تنكر صلتك بالفيلم، هذا فيلم يتحدث عن شخصيات حولك إن لم يكن عنك!
كنت طلب من صديق إن يدلنى عن فيلم كئيبا، فدلنى..
ومع الدقائق الأولى للفيلم شعرت بإكتئاب عميق، رغم أن كل شئ حتى كتابة هذه السطور يسير على ما يرام، ولكنى أتوقع نهاية مؤلمة!
كل شئ يدعوا للإكتئاب هنا، الظروف المعيشية، الضوائق المالية، الصراع، تعابير الأمل نفسها تصيبك بالغم، الموسيقى موجعة.
رجلاً ينتمى للطبقة العاملة فقد حياته بفقد دراجته، مأساة يعرفها أى سائق تاكسى ، أو صاحب عربة مأكولات، أو أى رب عمل من الأعمال البسيطة.

يبدأ الفيلم بشاب عاطلاً لشهور، يعثر على عمل يتطلب منه أن يملك دراجة كى يباشر عمله، فيبدأ مع زوجته تصريف شئونهم المالية برهن كل ما يمكن رهنه، حتى أغطية السرير ويحصل أخيراً على دراجته.
وينتقل الشاب بدراجته ليلصق ملصقات أفلام هوليود على جدران الشوارع المتهالكة، (لاحظ هنا المفارقة المقصودة بين صورة لـ"ريتا هيوارث" تعكس إتجاه سينما "هوليوود" وقتها، وبين فيلمنا الذى يمثل حركة السينما الواقعية الإيطالية "النيروليزم")

وأثناء أنهماكه فى العمل، يأتى سارق الدراجة ليسلب من الشاب أحلامه التى ما لبثت أن بدأت، حتى يفر السارق بدراجته على الأرجح لأستخدامها فى عمل مشابه، على نحو يبرز درجة إنتشار البطالة فى البلاد، كما يبرزها فى مشاهد أخرى عديدة.

بعد مطاردات يائسة للشاب وأبنه الصغير، نرى البطل يهرب من قلقه ويأسه ببعض الطعام الفاخر والنبيذ فى أحدى المطاعم البرجوازية، وعلى غير المتوقع يعثر الشاب على سارق الدراجة سائراً بجوار منزله، وبعد مشهد طويل لم يستطيع فيه الشاب أن يدين سارق الدراجة أو العثور على دراجته، يعود مذيلاً بالخيبة.

جائت المحاولة الفاشلة لسرقة دراجة كانت ملقاة بلا صاحب بعد صراع نفسي عنيف، يجد الشاب نفسه مقبوضاً عليه، ويستأسد عليه المجتمع، نفس المجتمع الذى لم ينفعل له من قبل، وكأنه يقف ضده على طول الخط فرفضه شريفاً ولصاً، ويتركه الرجال بعد أن رأوا الحالة المزرية التى عليها أبنه الباكي، فيتركوه بعد توبيخ.

يلتقط الشاب قبعته ويضغط على يد أبنه الصغير ويسير، وينتهى الفيلم بأختفاء الشاب وأبنه وسط الجموع البائسة السائرة لتكون قصة من ملايين القصص التى تزخم بها الحياة الواقعية والتى على حد علمى لن تنتهى!


13‏/01‏/2011

عزيزي "وودي ألين" ... تحية طيبة وبعد



لا أعرف من أين أبدأ ... وهذه الكلمة - لا أعرف من أين أبدأ - هي كلاشيهية جداً، إذ يستخدمها ضعفاء الكتًّاب كاعتذارٍ مسبق عن رداءة ما يكتبون وعن تفككه. ولكني بالفعل عند الحديث عن "وودي ألين" لا أعرف من أين أبدأ! على كل حال سأحاول محاكاة طريقة "ألين" نفسه وأفتتحُ بطريقته؛ سأقص عليكم حكاية سريعة ومنها أبدأ.

في حديث مع أحد الأصدقاء قلتُ له: "إني خائفٌ من أن أمضيَ في حياتي عشرين سنة أُخرى، ثم أتوقفُ لأنظر الماضي فأجده لا شيء، ثم أتطلع إلى المستقبل فأجده كذلك لا شيء. أكون بذلك قد أضعت من حياتي ما فات منها وما هو آت. هل سيفيد الندمُ حينَها؟!" أو كما قال "نجيب محفوظ" في "ميرامار": ما جدوى الندم بعد الثمانين؟!"

بعد أشهر قليلة من هذه المحادثة، شاهدت فيلم "أي شيء آخر" .... تفاصيل "ألين" المعتادة: علاقة معقدة بين رجل وامرأة ... نكاته المراوغة عن اليهودية ... الأداء العصبيّ وطريقة الحوار ذاتها ...... ولكن .. ولكن الفيلم به هذه المرة مسحة أجدُها غريبة على سينما "وودي ألين" ... الدور المساعد الذي يلعبه هو في الفيلم: شخصية "دُوبل" ... حول هذه الشخصية يُنسج الاختلاف الذي ألمسه هذه المرة. ولكن قبلَ أن أوضح هذا الاختلاف، دعونا نتفق حول بعض النقاط التي أراها من ثوابت هذا المخرج.

إن الفنون التعبيريّة هي -ولا شك- وسائل تطهير لأرواح الفنانين، ودروب كشفٍ عن أعماقها. ومن ثمَ فإن كل عملٍ فنيّ، ذاتياً كان أو قومياً أو إنسانياً أرضياً، فإنه لن يفلتَ من ترسبات هذه الأرواح: ذكريات الطفولة ... المخاوف ... الأحلام ... الاتجاهات ... إلخ، في علاقة معقدة شديدة التشعب. سينما "ألين" هي مثال شديد المباشرة لهذه العلاقة، التي اختزلها هو لتصبح أفلامُه – في معظمها- هي انعكاسٌ لنفسه وصلاتها المركبة مع ما حوله ومن حوله؛ بحيث يصبح البطل هو تطابق لشخصية "وودي ألين" الحقيقيّة، بطلٌ يحمل ذات أفكاره وهواجسه ومشاعره وأرائه، بل ويعبر عنها كذلك بذات طريقة "ألين" العصبية المضطربة المتقطعة المُدافِعة، مما يوضح السبب الذي يجعله يقوم بأداء دور البطولة في معظم أفلامه، مما دفع البعض -ولا أراهم على خطأ- إلى الاعتقاد بأن "ألين" يمارس بذلك نوعاً من التطهر الروحيّ أو العلاج النفسيّ. ونستطيعُ أن نلخصَ كلَ ما فات في كلمة واحدة نصف بها سينما ذلك المبدع العبقريّ .... ألا وهي "الذاتية" ... تلك الذاتية التي يستطيع هو بحس وروح فنان صادق، أن يستخرج من لُبِها الشخصيّ معاني إنسانيّة عامة، يشعر بها (كلُ إنسان) ... فيصبح هذا البطل الذي يعبر عن ذاتية شخص صانعه، هو في حقيقته وبعد تجريده من الشكل الخارجيّ، إنسانُ هذا العصر، وتصبح معاناته الذاتية، هي معاناة عامة، أو بكلمة اُخرى: إن قمة الذاتية والخصوصية هي قمة العمومية والإنسانية، كما أخبرنا من قبل عظيمُ الأدب الروسيّ "أنطون تشيخوف".

وأولُ هذه العلاقات التي نلمسها واضحة في أفلام المخرج، هي تلك التي تربطه بأمه، ويمكن أن نلخصَ هذه الصلة في عبارة يقولها هو في افتتاحية المقطع الذي قام بإخراجه من فيلم "حكايات نيويورك" ... إذ يقول متحدثاً عن أمه: "أنا أُحبها، ولكني أتمنى لو أنها اختفت". في ظنِّي أن هذه العلاقة مع أمه هي بداية التعقيد في الصلات التي صاحبت "وودي ألين" لبقية حياته، فهي الأم المتسلطة التي تتعامل مع ابنها بهيمنة تامة، وبطريقة لا تتغير منذ أن كان ذلك الصبي ذا العوينات السميكة .... أحمر الشعر، قصير القامة، نحيل الجسد .... لم تتبدل هذه النظرة قط في عيني الأم، بحيث خلقت علاقتها به سجناً تشتد قسوته بمر السنين، لتجعل التحرر من وراء قضبانه هدفاً دائماً لحياة ابنها الحبيب، ولتجعل العلاقات مع النساء في نظره هي معادلٌ جديد لهذا السجن وإن اختلفت التسميات، وهنا يظهر التعقيد الثاني: المرأة. ولكن قبل أن نتطرق للحديث عن المرأة في حياته، فثمة بُعد آخر في (علاقة الأم) يجب أن نعيه تماماً، بُعدٌ يتأتّى بالأساس من (يهودية) هذه الأم التي هي بمثابة عامل تذكير دائم –كما يشير أُستاذنا الـ د.عبد الوهاب المسيري- لابنها الذي يعيش داخل المجتمع الأمريكيّ بكونه مختلفاً عن هذا المحيط؛ فهو ليس (واسب WASB) بل (يهودياً) ويجب أن يحافظ على هذا النقاء اليهوديّ، فهذه الوالدة -كما نراها في الفيلم سالف الذكر- لا تقبل إلا أن يتزوج ولدها من امرأة يهودية تحمل ذات صفات الأم، وترفض تمامًا فكرة زواجه من امرأة من نساء الأغيار –أي امرأة غير يهودية حسب التعبير العبرانيّ- تأكيداً على يهودية الابن، بل ومنعَ (تمامِ) ذوبانه في المجتمع، فاليهود -كما يقول الأستاذ العقّاد- يحبون أن يعتبروا أنفسهم (عِرقاً)، أو بتعبير آخر: دولة داخل الدولة.

عند الحديث عن المرأة في سينما /حياة "وودي ألين" يجب أن نعترف بأننا نخوض في أرضٍ زلقة، أو دغلٍ شديد الإظلام والغموض؛ هذا أن علاقات الحب بشكلها الكلاسيكيّ ... بمنهجها الأمريكيّ أو غير الأمريكيّ هي شيءُ لا أظنُ أنه قد دار يوماً في ذهن "ألين". ربما يفسر لنا ذلك نكتة يرويها هو لنا في افتتاحية فيلم "آني هول" ... إذ يخبرنا: "هناك نكتة قديمة تقول: أنا لا أقبل أن أنضمَ لنادٍ يقبل أمثالي كأعضاء فيه."، ثم يضيف: "هذه هي علاقتي مع النساء.". فدائماً ما نرى أبطاله يتركون علاقاتٍ بها قدرٌ من الاستقرار النسبي إلى علاقة غامضة نوعاً، بها شيءٌ ما غير سليم، مما يؤدي بهذا البطل إلى حالة من الاضطراب، تصل بالعلاقة –غالبا- إلى الانفصال، الذي يلقي "ألين" دائما ً –وهو اليهودي الشاعر بالاضطهاد المتواصل- بذنبه على المرأة، لتصبح هي هادمة هذه العلاقة. وهنا يظهر أحياناً نوعٌ من الحنين إلى العلاقة السابقة ويتولد الندم كما رأينا في فيلم "منهاتن". المدهش في الأمر أن "وودي ألين" يبحث عن حبٍ حقيقي بين ثنايا هذه التشابكات، وهو في ذلك فاشلٌ أبدياً، لكنه يصر على ذلك رغم تهكمه المتواصل على طقوس علاقة الرجل بالمرأة بمنهجها الأمريكيّ، الذي يبدأ بالدعوة إلى كوب من القهوة أو كأس من الشراب، ثم الدعوةعلى العشاء، التي إن تمت بنجاح تؤدي إلى بدء المواعدة Dating، ثم تبدأ علاقة الجنس، ثم الاحتفلات بأعياد الميلاد والذكريات السنوية، وتنتهي هذه العلاقات دومًا بالانفصال إما قبل إتمام الزواج أو بعده. كل هذا لا يروق السيد "ألين" - كما قلت- ولكنه يستمر فيه، فيما يُعد من أبرز تعقيداته الشخصية التي لا تنتهي. ولكن ما يؤدي بالأمر إلى مرحلة اُخرى من التعقيد هو ظهور إشكالية الجنس.

ما هو الجنس؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تعتمد بالأساس على التكوين الذاتيّ للفرد، وهي من ناحية أُخرى مؤشرٌ لمقدار ما فاز به هذا الفرد من الحضارة. وعلى ذلك فإن هناك تباينًا عظيمًا بين الإجابات المحتملة، والتي نعرض منها ما يلي:

- الجنس هو وسيلة للتطور والحفاظ على النوع من الانقراض.

- الجنس هو وسيلة للتمتع و الإشباع الجسديّ.

- هناك رأيٌ لا يرى للجنس أهمية أوهو يُعلي من قدر المشاعر فاصلاً بينها و بين الممارسة الجسدية.

- الجنس هو طريق للتواصل ووسيلة للتعبير.

- الجنس هو وسيلة لشحن الإنسان نفسيًا بطاقة تساعده على اتمام مهام أكبر.

وهذه النظرات هي جميعًا عندنا ليست متناقضة بل متكاملة أشد التكامل، ولكن الفارق يأتي في ترتيب الأهمية، الذي يختلف من إنسان إلى آخر. والجنس عند "ألين" يقدِّم التعريفَ الرابع؛ الجنس هو وسيلة تواصل وتعبير عن الحب، وهو في ذلك شديد الإيمان إلى حد التعصب، إلى الحد الذي يجعله عندي – أحياناً- مطبقًا لمبدأ "شوبنهاور" الذي يجعل من (الحب) لفظة مهذبة للتعبير عن (الرغبة الجنسية)، ويؤكد لنا ذلك أنه يجعل من امتناع المرأة عن علاقة الفراش مؤشراً لبرود الحب وفتور العلاقة، ثم يأتي الانفصال في النهاية كنتيجة حتمية لهذه الحالة. ولكنه بين كل هذا لا يجرد الجنس من معناه ... مطلقًا ... بل يحافظ عليه كشعورٍ وحالة، فنحن مثلاً نرى في بعض حكاياته امرأة تمارس الجنس تحت تأثير الكحول أو الماريجوانا أو حتى تحت تأثير التنويم المغناطيسيّ، هذه امرأة لا يقبلها "وودي ألين" ولا يحبها، وهي عنده إنسان غير مكتمل الإنسانيّة؛ إذ أن الجنس في هذه الحالة يُفَرَّغُ من معناه فيصبح – كما يوضح لنا "د.المسيري" في حديثه عن "ألين"- حركاتٍ يأتي بها الجسد، دون أن تكون لها دلالة روحيّة ما، مما يجعله جنسًا لا يحل "أزمة المعنى" وهذا لا يناسب "ألين" .

ثمة إلماح أخير قبل أن ننهيَ حديثنا عن الجنس والمرأة في سينما هذا المؤلف: على الرغم من الموجة التي شهدتها السينما الأمريكية منذ بدايات السبيعينات والتي كانت تفترض أن الخوض في أمور الجنس والعنف بشكل سينمائيّ سوف يؤدي تلقائيًّا إلى تخفيف الكبت المخزون في المجتمع الأمريكي، تلك الموجة التي عضدها خروج السينما من تحكم الرقابة الكُنسية الكائنة قبل هذه الفترة، على الرغم من هذا التحرر إلا أننا لا نرى –في أغلب الأحيان- أيَ ممارسات جسدية أو مشاهد عارية عند "وودي ألين"، ولكننا نرى دومًا حوارات تدور بشأن الجنس، ونرى أثره في حياة الشخصيات. وأنا لا أعدُ ذلك مزية أو نقيصة في أفلامه ولكنه شيء ملفت، أظنه راجعاً بالأساس إلى كوميدية العرض التي ينتهجها "ألين" في معظم الأحيان.

نيويورك. المدينة اللامعة، التي تستقبلنا أنوارها قبل أميال من داخل المحيط. تمثال الحرية، مبنى "الإمبايرستات"، حي "منهاتن" العريق و"وول ستريت". المتاحف ودور الأوبرا، قاعات السينما والمسارح، المطاعم الفاخرة، دُور النشر والمكتبات الضخمة. نيويورك، العاصمة الاقتصادية للولايات، والمدينة التي بُنيت على شاكلتها عشرات المدن الحديثة في العالم. قليلة هي الأفلام التي تقف أمام كل هذا لتخبرنا بحقيقة مغايرة؛ تخبرنا عن الشوارع الخلفية لهذه المدينة، أو تخبرنا عن الوجه الآخر للحضارة. نيويورك التي وُلد فيها "ألين"، وفيها عاش، وفيها صنع معظمَ أفلامه. بوصف هذه المدينة، وفي افتتاحية كوميدية أُسطورية يبدأ فيلمه "منهاتن" ويقول: "لقد عشق مدينة (نيويورك), ومجّد كل جزء فيها ... بالنسبة له -أياً كان الموسم- كانت لا تزال مدينة موجودة بالأبيض والأسود ... لقد ترعرع على الزحام والصخب من الحشود وحركة المرور ... بالنسبة له كانت (نيويورك) تعني المرأة الجميلة ... وشباب الشارع الأذكياء الذين يعرفون كل الزوايا فيها ... على الرغم من أنها بالنسبة له كانت كناية عن انحطاط الثقافة المعاصرة ... وقلّة النزاهة التي جعلت الكثير من الناس يأخذون الطريق الأسهل ... كم كان صعباً بالنسبة له أن يتواجد في مجتمع منزوع الحساسية بسبب المخدرات وصخب الموسيقى .. التلفاز... الجريمة ... القمامة ... كانت (نيويورك) مدينته وستظل كذلك دوماً."

بهذه العبارات التي تبدو متناقضة يلقي "ألين" برأيه عن مدينته الحبيبة في وجوهنا، نيويورك التي هي عنده مثالٌ لكل مدينة حديثة، فيها بطله هو إنسان هذا العصر، الإنسان الذي يعاني من المهزلة الأخلاقية والمعرفية في مجتمعه، ولكنه مشاركٌ فيها رغم كل شيء، بل هو صانع لجزء منها. وهنا تظهر عدة تساؤلات:

هل نحن نعيش في مجتمع متحضر أم مجتمع زائف التحضر؟

هل يفيد التقدم الصناعي والعلمي إن تزامن معه انحدار في أخلاق الناس وأرواحهم؟

ما فائدة الاطلاع على الفنون التي تدعو في جملتها إلى قيم الحق والصدق والتضحية، ما فائدة كل هذا إذا ما فصلناه عن واقع حياتنا؟

هذه أسئلة ثلاثة، نجيب عن ثالثها أولاً، ثم ثانيها. ومن هاتين الإجابتين نعرف حقيقة تحضرنا من زيفه وهذه هي الإجابة عن السؤال الأول.

في التساؤل الثالث نقول: تخيل معي هذا المشهد: رجل وامرأة في مكان لبيع الكتب والاسطوانات الموسيقية ...إلخ. الرجل متزوج، والمرأة في علاقة جادة مع أحدهم، الرجل والمرأة يتحدثان عن "موزارت" و"تشيخوف" و"فيلليني" وغيرهم من رُسل الفن، الذين أثروا البشرية بطهر فنّهم، ولكنهما –الرجل والمرأة- في حديثهما هذا إنما يبطنان نوعاً من المغازلة، ويمهدان بها –وإن لم يصرّحا- لعلاقة قادمة، هي في أساسها هدم وخيانة لعلاقة الرجل بزوجته الحالية، وعلاقة المرأة بحبيبها. هذا الموقف يراه "ألين" داعياُ للغثيان، ومثيراً لإشكالية عنيفة في سينما هذا المخرج، وهي: إشكالية الفن والأخلاق، والتي تدخل بدورها تحت مظلة إشكالية أعم، وهي: التحضر والإنسان. ومن عندها نبدأ الإجابة عن التساؤل الثاني.

وفيه نقول بعبارة مختصرة: إن التقدم في جوانب الحياة المادية للإنسان، يماثله تأخر في الشق الروحانيّ، وهذه هي كارثة الحياة في المجتمع الصناعيّ الماديّ. إن تراكمات الحداثة –وباتخاذ نيويورك مثالاُ لها- تؤدي بالإنسان إلى نوع من الغرور، ذلك الغرور الذي يهدم كل الثوابت التي عرفها بغريزته، وآمن بها بفطرته، ومن ثمَّ نفقد قدرتنا على القياس؛ إذ أننا نقف على أرضٍ مجهولة المعالم، لا نعرف فيها معاني للخطأ أو الحرام، ولا نعرف ماهية الجمال والقبح، تختلط المفاهيم فنفقد قدرتنا على تمييز الأشياء. إنها كارثة "النسبية" –كما يقول د.عبد الوهاب المسيري- التي تنسف كلَ مطلقات أخلاقية أو معرفية، لنصبح في ظلامٍ نتخبط فيه. نلمس هذا الإظلام في حياة "إيزاك" بطل فيلم "منهاتن"، وعلاقته بثلاثة نساء؛ الأولى هي زوجته السابقة التي هجرته مع ابنهما الصغير لتعيش مع امرأة أخرى في شذوذ جنسيّ، ثم تقدم بعد فترة من طلاقهما على تأليف كتابٍ عن تجربة زواجهما المنقضية، مدرجة فيه أدق تفاصيل علاقتها الجنسية مع زوجها. أما الثانية فهي فتاة صغيرة في السابعة عشرة من عمرها، تحب البطل وتتعلق به بصدق، لكنه يهجرها إلى امرأته الثالثة. وهذه المرأة الثالثة –التي لعبت دورها "ديان كايتون"- هي شخصية غريبة الأطوار، برع "ألين" من خلالها في تقديم فكرة " النسبية المعرفية" بمعالجة كوميدية منيرة، من خلال أرائها عن معروضات أحد معارض الفن الحديث، ثم سردها لبعض الفنانين والكتّاب المُبالغ في تقييمهم –في رأيها- والذين صنعت لهم ناديًا خاصًا في خيالها مثل: "سكوت فيتزجيرالد" و "كارل يونج" و"فنسنت فان غوخ" و"إنجمار برجمان"، مما يثير دهشة "إيزاك" الذي يعرض عليها متهكمًا أن تضيف "موزارت" إلى هذا النادي!! كما نرى وصْفها لزوجها السابق بكونه أسطورة جنسية وأنه قد علمها الكثير، لنرى هذا الزوج في النهاية فيدهشنا مظهره القصير، الأصلع الذي يدفع "ألين" إلى وصفه بالقرد. أما عن علاقاتها فإننا نراها في بداية الفيلم في علاقة مع صديق البطل، وهو شخص متزوج، ولكنها لا تأبه بذلك في البداية، ومع مرور الأحداث تنجذب إلى شخصية "إيزاك"، فتمضي إليه تاركة حبيبها المتزوج معللة ذلك بكونه متزوجًا، وأنها لا تشعر بجدية العلاقة، ومع مرور الأحداث تفقد اهتمامها بـ "إيزاك"، وتعود إلى حبيبها الأول. وهي بين كل هذا لا تشعر بأي تأنيبٍ أو نداء من ضمير، فيما يشكل مهزلة أخلاقية تُضاف إلى أفعال الزوجة الشاذة التي لا تتحرج من فضح نفسها ووالد ابنها في كتابٍ تؤلفه. وفي النهاية يقف البطل ليتأمل سوء الموقف الذي انتهى إليه، مدركًا أن قصورَ نظرته وسوءَ اختياراته كانا من أسباب هذا الموقف. وهنا يتذكر نقطة النور في كل هذا الإظلام؛ الفتاة الصغيرة التي أحبته بصدق، فيهرع إلى الشارع، ويركض في الطرقات إلى بيتها، فيوافيها وهي على وشك مغادرة البلاد إلى "لندن" لمدة ستة أشهر. فيقف عندها مبدياً ندمه الصادق في مشهد دافئ، قلما نراه في سينما "ألين"، وفي حوارٍٍ نخلص منه إلى نتيجة نهائية: إن البراءة في هذا المجتمع إما أن تهجره، وإما أن تنضج، والنضج عند "وودي ألين" هو معادلٌ لفقدان الروح الجميلة، ليصبح الإنسان مسخاً مثل بقية المسوخ التي تجوب شوارع "منهاتن"، لذا يطلب من هذه الطفلة ألاّ تنضج، وهذا –بالطبع- مطلبٌ لن يتحقق. وينتهي الفيلم بصورة شهيرة لـ "منهاتن"، هي نفسها التي بدأ بها الفيلم؛ وكأن "ألين" يخبرنا بأن هذه هي الحياة في نيويورك.

ومن ذلك، أظنُ أن إجابة التساؤل الأول قد أمست واضحة!!

في مدارس أمريكا يقولون للأطفال، أن بلدهم هي حلمٌ، هي أرض يجتمع البشر من مختلف الأعراق والألوان والأديان، يجتمعون بلا اختلافات في بلدٍ حر ، تستقبلك "الآنسة حرية" عند بوابته الشرقيّة. ولكن الواقع يخبر هؤلاء الأطفال بكذب المدرسة؛ يخبرهم عن فشل المجتمع الأمريكيّ في تمام هضم الفوارق بداخله، لينتج شخصية متحررة من كل اختلافات الأصول، بل يخبرنا التاريخ القريب، عن أماكن كان يُمنعُ من دخولها (الزنوج والكلاب واليهود). في هذا المجتمع الذي لم يتحرر بأية حال من عنصرية، في حي "بروكلين" الشهير، وُلد لعائلة مهاجرة يهودية، الطفلُ "ألان ستيوارت كونسبرج". دعونا نتخيل موقف هذا الطفل الذي يسمع كلمة "يهوديّ" من الناس حولَه على أنها نقيصة وعارٌ يُوصم به البعض من سكان ذلك المجتمع، ثم يعود الفتى ذاتُه إلى البيت، ليسمع من أمه عن نقاء جنسه اليهوديّ، واختلافه عن المجتمع المحيط به. ليقع الفتي بين شقيّ رحى بمعنى الكلمة؛ إذ يتساءل: هل اختلافه النابع من يهوديته، هو اختلاف إيجابيّ كما تؤكد الأم، أم هو اختلاف سلبيّ كما يؤكد واقع مجتمعه الذي يحياه؟

مع مرور الزمن، ومحاولات هذا الطفل للاندماج في هذا المجتمع، والتي تُقابل بالرفض، يظهر لديه نوعٌ من الـ"بارانويا"، نلمسه جليًّا في نبرة (الدفاع) التي تلازم حوارات "وودي ألين"، بغض النظر عن كونه مُتَّهمًا أم لا. ومع تقدم العمر، تظهر المرأة في حياته، لنجد أنه إلى جانب إشكاليات الحب والجنس وعلاقة الأم، تظهر النظرة اليهودية إلى أنثى (الأغيار) التي هي جزءٌ من ذلك المجتمع الذي يرفض "ألين"، مما يجعل محاولاته للاندماج في حياتها، تنتهي بالفشل. ومن ناحية أُخرىفإن أصله اليهوديّ يراها كعاهرة لا يصح لرجل يهوديّ أن يتزوجها. وهذا ما رأيناه في فيلميّ: "آني هول" و"حكايات نيويروك".

في الفيلم الأول نرى كثيرًا من التفاصيل التي تكلمنا عنها في الأسطر القليلة الماضية؛ إذ نجد الأسرة اليهودية وطفلها الصغير، الذي نرى تطلعاته إلى العالم من حوله، ومع نضجه، يظهر الشعور القويّ بالاضطهاد، ثم نلحظ رفضه لفتاة يهودية، وإعجابه بالأمريكية الشقراء "آني"، وبداية دخوله إلى عالمها، ثم فشل هذه العلاقة في النهاية. وبين البداية والنهاية، نرى نظرة أسرة الفتاة للبطل اليهوديّ "آلفي سنجر"، ثم اللقاء المُتَخيل بين "آني" وأسرة "آلفي"، لندرك في النهاية حجم الفجوة والاختلاف بين العالمين.

أما فيلم "حكايات نيويورك"، فهناك البطل اليهودي الذي يغير اسمه، ويمضي إلى داخل مجتمع الواسب، ويحب فتاتهم،و لكن الأم –والتي تمثل الأصل اليهوديّ- ترفض هذه العلاقة كما قلنا من قبل.

في هذا المجتمع الذي يعاني من أزمة أخلاقية صارخة، وبين هذين الاتجاهين المتضادين: الأصوليّ والاندماجيّ، يعيش البطل "وودي ألين" اليهودي الفاشل باحثًا عن معانٍ لهذه الحياة، فالإنسان فيها يعيش في التعاسة والشقاء والبؤس، والأسوأ أنها تنتهي سريعًا بموتٍ لا مفر منه. فإذا كانت الحياة شقاء وتعبًا وموتًا في النهاية، فلماذا يتمسك بها الإنسان، ويحارب من أجل البقاء فيها؟! هذا هو السؤال الذي يطرحه بمباشرة فيلم "حنَّا وأخواتها". في بداية البحث عن الجواب يتجه "ألين" إلى الدين، فيصطدم برجاله، ورجال الدين عند "وودي ألين" هم أحط حفنة من النصابين عرفها التاريخ البشريّ؛ إذ يبيعون الوهم للناس في سبيل تحقيق منافعهم الشخصية، ويحمل منهم "شعلة النصب" في أيامنا هذه "المعالجون النفسيون". ويمكن أن نلخص رأي "ألين" حولهم في تلك الحكاية التي يرويها في فيلم "زيليج"، إذ يقول: "ذهبت إلى المعبد، لأشكو إلى الحاخام، وأطلب منه النصحَ، فقال لي: سوف أعلمك دعاء يريح نفسك، ثم قرأ عليّ أحد الأدعية العبريّة. فقلت له: ولكني لا أفهم العبرية، فقال لي الحاخام: يمكنني أن أعلمك العبرية مقابل مائة دولار."

في "حنَّا وأخواتها" نشاهد "ميكي"، الشخص المصاب بوسواس قهريّ من المرض، مما يدفعه لإجراء الكثير من الفحوصات الطبيّة، وفي أحد المرات يخبره الطبيب بشكوكٍ حول إصابته بورمٍ مخيّ، ولكن يظهر خطأ هذا الاحتمال لاحقًا، فيشعر "ميكي" بسعادة بالغة، ولكنه يتنبه إلى حقيقة هامة: في كل الأحوال فهو سيموت في النهاية . هنا يبدأ البحث عن معنى الحياة. يبدأ بالاتجاه إلى كتب المفكرين والفلاسفة، ولكنه يفشل في إيجاد ما يريد، ثم يتجه إلى اعتناق الكاثوليكية –وهو اليهوديّ الملحد-، ولكنه يتركها بعد بضعة أيام، إذ وجدها –على حد تعبيره- مثل شخصٍ، يقول لك: "مُتْ الآن، وسأدفع لك لاحقًا."، ثم يفكر بعد ذلك في اعتناق أحد الأديان التي تؤمنُ بتناسخ الأرواح، ولكنه يتراجع إذ يجد أن الأمر هو محض هُراء. وفي النهاية يقرر أن كونًا بمثل هذا الشر والسوء، لا يمكن أن يكون له إله خالق. ومن هذا المنطلق الإلحاديّ، ومن خلال نظرة ألين للموت –وهي تشبه النظرة الإغريقية الأسطورية؛ حيث مملكة الموتى وحارسها "شارون"، وما إلى ذلك- تصبح الحياة بلا معنى؛ فهي حفاظ على جسد سيتلف في النهاية، وينتقل إلى العدم. ويصبح الإنسانُ بذلك كائنًا، يركض في هذه الدنيا بلا هدف، على طريق ينتهي بهاوية حتمية. ومن ثمَّ يقررُ الانتحار، ويقدِم عليه، ولكن بينما هو على وشك إطلاق الرصاص على رأسه، تطيش طلقات البندقية، وتصيب المرآة المعلقة وراءه، وتجذب الأصوات الجيرانَ في بنايته، فيطرقون عليه الباب، و يُصاب "ميكي" بحالة من الذعر والتشوش الشديد. وبعد ذلك يخرج إلى الشارع، ويدخل إلى أحد دور السينما، ليهدئ من روعه، وهناك يجد الحل؛ إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة: التفاصيل البسيطة، والأشياء الصغيرة التي يكمن وراءها الجمال الحقيقيّ، والمعنى وراء حياتنا، إذ تُوجد السينما، يُوجد الحب، الذي هو أعظم الطاقات الكامنة داخل نفس البشر. وينتهي الفيلم، وقد تحققت له السعادة الحقيقية أخيراً، مع زوجة يحبها، وطفل ينتظره داخل رحم هذه الزوجة.

طالما سخرت ممن يدعون معرفتَهم لأنفسهم، فالإنسان جاهل بنفسه تماماً، ولكن إن كان هناك استثناءٌ لهذه القاعدة، فإنه "وودي ألين"؛ إنه يعرف نفسه حقاً، وهو سيدُ المعبرين عن أنفسهم. ولكن "ألين" هو مثال للمثقف المشوَش؛ الذي يعرف أسئلته، ويعرف أجوبتها، ولكنه غير قانع بأيٍّ من هذه الأجوبة، وهنا مكمن التشوش.

أنا لا أعرف من أين أبدأ الحديث عن "وودي ألين"، ولا أعرف كذلك أين أنتهي؛ فالرجل هو كتلة من التساؤلات والاضطرابات تمشي على قدمين. وقد أنفق هو كلَ حياته في محاولة الوصول إلى الإجابات، ولكنه بذلك قد وقع في الشَّرَك الذي حذرنا منه –نحن الرجال- "تولستوي" من قبل؛ فهذا الروائي الروسيّ العملاق يرى "أن المفاجأة التي يخبئها الزمان للرجال، هي التقدم في العمر"، هذا هو ما (شعرتُ) به في فيلم "ألين" "أيُ شيء آخر" .... إنها مرثية مخرج قد ترك العنان لهواجسه وإشكالاته، ثم توقف ليسأل الناس عن الوقت، فأخبروه أنه قد أنفق من عمره سبعة عقود!! ... سبعة عقود بين أمه والمرأة والجنس ونيويورك والمعنى والدين ... وفي النهاية ... لا شيء. نرى هذا المخرج وهو يؤدي شخصية "ديفيد دوبل" الناصح الأمين لشاب صغير يُدعى "جيري فوك" ... شاب يشبه "ألين" وهو بعد كاتب صغير مغمور ... شاب في الحادية والعشرين من عمره، يعيش في نيويورك، في علاقة مركبة مع فتاة مضطربة، وموقف عجيب من مدير أعماله الذي استخدمه "ألين" كرمز للأم، ومعالجه النفسيّ الذي يرمز بشكل واضح لرجل الدين ... فتكون نصيحة "دوبل" لذلك الشاب، أن يهرب من كل هذا، وأن يتعامل بمباشرة مع كل هذه التعقيدات؛ ينصحة بأن يهجر الفتاة، وينهي العقد الذي يربطه بمدير أعماله، ويتوقف عن زيارة معالجه النفسيّ، وأن يترك نيويورك إلى لوس أنجلوس ليبدأ حياة جديدة. وإني أرى أن "وودي ألين" في هذا، إنما يقدم لنفسه نصيحة أو بالأحرى أمنية، كان يجب أن يتبعها منذ شبابه الأول... ولكن الماضي لا يعود.

08‏/01‏/2011

(The Happening (2008



The Happening/M.Night Shyamalan (2008)

2.5/5


لا يزال شيامالان يعاني من سيطرة (الحالة النموذج) - إن صح التعبير- على أحداث فيلمه، فدائما ما كان لديه الأساس المحكم للحكاية، و دائما ما امتلك شخصيات قادرة على تحريك (الحدث) للأمام. لكنه يفضل التوقف عند البداية مكتفيا برسم نماذج بدائية لشخصياته، مفضلا وضع الجمهور في حالة ترقب عبثي لما يمكن أن نسميه (بالاشئ). (إليوت مور) مدرس لمادة العلوم يفاجأ في صباح يوم دراسي عادي بأن عليه و أسرته ترك المدينة، وسط أنباء عن انتشار فيروس رهيب يؤثر على الجهاز العصبي للبشر ويجعلهم يقومون بقتل أنفسهم بعد شل قدرتهم عن التفكير، ونمضي من هنا في رحلة بحث عن النجاه حتى نكتشف أن هذا الفيروس المزعوم ما هو إلا تحذير من النباتات و الأشجار كرد فعل على سوء معاملة البشر لهم، لكن بما أنه مجرد تحذير فقد انتهى الأمر في صباح اليوم التالي كما بدأ (فجأة) لكنه لم ينس أن يقرب الأسرة المشتتة من بعضها، في مشهد لو رآه (حسن الأمام) لأقتنع تماما بأنه أفضل من مخرجي هوليوود..لكن التحذيرات تتوالى في مدن أخرى بعد أن تترك أسرتنا السعيدة في النهاية. لكن مع ذلك لا يزال لدينا مخرج موهوب في رأيي، بارع في صياغة لقطاته – اذا استثنينا التنفيذ الكارتوني لبعض مشاهد الإنتحار و خلق الإيقاع المناسب لفيلمه، وسيظل شايمالان في رأيي يشكل مع ( كريستوفر نولان - دارين أرونوفسكي - بول توماس أندرسون) مربعا جيليا لامعا، أو هذا ما كنت أتصوره مع بداية متابعتي لكل منهم على حده. لكن أين صار صاحبنا الآن، الأقل يمكننا التفاؤل إذاء توقفه عن التمثيل - و لو بشكل مؤقت – في هذا الفيلم.

30‏/11‏/2010

عن كونتن تارنتينو و بلب فيكشن وأشياء أخرى


عقب انتهائي من مشاهدة فيلم "بلب فيكشن" شعرت بأني قد تعرضت لخدعة ما؛ فقد كنت أعِدُ نفسي قبله بساعتين من التمتع السينمائي العظيم، ولكني باستثناء الإعجاب بطريقة السرد لم أعجب بشيء آخر؛ إذ أن هذه النوعية من الأفلام لا تروق أمثالي ولاتجذبهم، كما أن الفيلم لا يحوي أيَ عمقٍ في الفكرة.
عند هذه الجملة الأخيرة تحديداً -"أن الفيلم لا يحوي أيَ عمقٍ في الفكرة "- توقفت، وتذكرت كلمة قالها أحدُ الأصدقاء -ساخراً من مدعي العمق- لصديق آخر كتب تدوينة ساخرة، قال :لِمَ لم تكتبْ في مقدمة مقالك :طالبو العمق يمتنعون عن قراءة هذا المقال. تذكرت الكلمة وسخرت من نفسي كثيراً وبدأت أفكر في الفيلم من زاوية مختلفة. أول ما نظرت إلى اسم الفيلم" Pulp Fiction"ونظرت كذلك للملصق الدعائيّ للفيلم، أما الاسم فهو مصطلح أمريكي يُطلق على نوع من الكتابات موضوعها دائماً هو رجال العصابات والأبطال الخارقين .... إلخ، وتُطبع هذه المجلات على ورق خشن داكن غير مكتمل الصنع، كما أن هذا المصطلح يقترب كثيراً من معنى كلمة "بوب أرت" ويُقصد بها الكتابات الموجهة للعوام من غير ذوي الثقافة أي"الشعبية"। أما الملصق الدعائي للفيلم فهو مصمم على شكل غلاف إحدى هذه المجلات تظر فيه "أوما ثورمان" ممسكة بمجلة من نوعية الـ "بلب فيكشن" . لم يكتفِ تارنتينو بذلك، بل أورد هذا المعنى الذي أوضحته لك في افتتاحية فيلمه، أي أن الرجل يقسم لنا برأس أبيه أنه سوف يقدم في فيلمه هذا عملاً سينمائياً يقوم بالأساس على هذا النوع من الكتابات وليس عملاً ذا عمق و أبعاد.


على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق فإن المشاهد الـ (عميق!!) لا يملك إلا أن يستمتع بالعمل بهذه الطريقة أو أن يمتنع عن مشاهدته بالكلية، أما أن (يركب دماغة) -مثلما فعلت أنا- ويحاول أن يقيم الفيلم بنفس التناول المتبع مع أفلام "فرانسيس فورد كوبولا" مثلاً فهذا دربٌ من الغباء المتحجر. يقول "د. أحمد خالد توفيق" بهذا الصدد أنه مثل أن تحضر مباراة لكرة القدم تتبعها بأخرى للتنس ثم تتعجب من أن لاعبي التنس يضربون الكرة بالمضارب بدلاً من الأقدام، بل وتتعجب كذلك من حجم الكرة وشكل الملعب الذي تقطعه عرضاً شبكة تقسمه إلى نصفين، لكل لعبة قواعدها وشكلها الخاص بها ولا يمكن أن تحكم على إحداها بقواعد الأخرى.

يقول "أنيس منصور" أن القطع الفنية تشبه ثمرات الفاكهة، يجب أن تعرف طبيعة كل ثمرة منها كي تختار الطريقة المناسبة لتناولها؛ فالبعض تأكله بيدك مباشرة، والبعض الآخر يحتاج سكيناً أو شوكة أو ملعقة، بعضها يحتاجُ تقشيراً أو تكسيراً أو أن تعصره....إلخ. على هذا الأساس يجب أن يكون تعاملنا مع أفلام السينما؛ فمعالجة مخرجين لنفس الفكرة تنتج أفلاماً مختلفة بشكل تام عن بعضها، مثلاً معالجة "فكرة التلصص على الجيران من النافذة" أخرج منها "ألفريد هتشكوك" فيلم"نافذة خلفية" الفيلم الذي يعد تحدياً يُدرًّس لبناء حكاية فيلمية كاملة من زاوية بصرية واحدة تُوضع فيها الكاميرا طوال الفيلم، بينما عند "كريستوف كيسلوفسكي" كان فيلمه المسمى بـ "فيلم قصير عن الحب" وهو قطعة شعرية جميلة من قطع "كيسلوفسكي" تختلف بشكل مطلق عن معالجة "هيتشكوك" . كما أن مُراد المخرج من صناعته للفيلم يحتم علينا تغيير نظرتنا من فيلمٍ لأخر؛ فيستحيل أن نقيم فيلم "غير مغتفر" لـ "كلينت إيستوود" بنفس المعايير التي نضعها عند مشاهدة فيلم "الطيب والسيئ والقبيح" لـ "سيرجيو ليوني"، بل أن أفلاماً لنفس المخرج ربما تختلف عن بعضها بشكل مطلق؛ فأفلام مثل "الفك" و "قائمة تشاندلر" و "ذكاء اصطناعي" و "حديقة العصر الجوراسي" جميعاً من إخراج "ستيفن سبيلبيرج" ولكن لكلٍ منها طريقته في التحليل والتناول.

الخلاصة أن كلَ مخرجٍ مبدعٌ بطريقته وكلاً منهم عظيمٌ في دربه الذي ينتهجه، "إنجمار برجمان" و "ألفريد هيتشكوك" كلاهما من أعظم عشرة مخرجين في تاريخ السينما، ولكن مقارنة أعمال أحدهما بأعمال الآخر تُعد درباً من إضاعة الوقت و الجهد.

وبهذه الخلفية الجديدة أعدت تأمل فيلم "بلب فيكشن" فكان أول ما لفت انتباهي هو نفس موطن إعجابي السابق، طريقة السرد السينمائية المتبعة في الفيلم. تدور أحداث الفيلم في الفترة الزمنية الواقعة بين صباح أحد الأيام و صباح اليوم الذي يليه، تقع خلال هذه الفترة عدة مواقف يتم عرضها على الشاشة بدون الالتزام بالترتيب الزمني لحدوثها مع عرض بعض هذه الأحداث من خلال وجهتي نظر مختلفتين (تقنية البوليفونيك ) وقد استخدم المخرج هذه التقنية أكثر من مرة خلال الفيلم، كما أن النص مقسم إلى عدة مقاطع لكل منهم عنوان وبطل، فبطل أحدها هو "تيم روث" بينما "بروس ويلز" هو بطل مقطع آخر ومقطع ثالث بطلاه هما "ترافولتا" و "أوما ثورمان"، أما البقية فكانت بطولتها من نصيب "جون ترافولتا" و"صامويل ل. جاكسون"، وبين هذه المقاطع يقفز الأبطال، فنرى "بروس ويلز" يظهر بشكل ثانوي في مشهد رجوع "ترافولتا وجاكسون" إلى البار حيث ينتظرهم رئيس العصابة "مارسيلاس والاس" ولا يظهر ثانية في بقية هذا المقطع من الفيلم ونشاهد أوما ثورمان (ميا) كشخصية رئيسية في مشاهد سهرتها مع ترافولتا (فينسنت فيجا) وبعض قليل تظهر بشكل ثانوي طفيف في مقطع تالٍ من الفيلم وهو نفس المقطع الذي يظهر فيه "ترافولتا" ككومبارس صامت يقتله المصارع بوتش (بروس ويلز) في ثانية واحدة .بلغ "تارنتينو "قمة الإتقان في استخدام هذه التقنيات عند مشهد نهاية الفيلم الذي لم يكن سوى استكمالاً لافتتاحيته وإعادة سرد لها من منظور بطل مختلف.

قضى "كونتن تارنتينو" سنوات من شبابه يعمل في مستودع لأفلام الفيديو، شاهد فيها عدداً ضخماً من الأفلام مما جعله على دراية تامة بـ "كلاشيهات" أفلام الحركة والعصابات، وقد قدم في فيلمه هذا العديد من المواقف التي يسخر فيها من هذه الكلاشيهات خاصة التي تخص رجال العصابات المحنكين!! بل بلغ به الحد إلى إهانتهم في بعض مشاهد الفيلم. من أجمل هذه الصور الساخرة هي لقطة النهاية التي نرى فيها "جون ترافولتا" و"صاومويل ل. جاكسون" يخرجون من المطعم وكلٌ منهم يضع مسدسه في الشورت!!، كما نراهما في مشهد آخر يتلويان –وهم الرجال شديدو المراس- من المياه التي يرشها "هارفي كيتل"، ناهيك عن الكم الهائل من الألفاظ النابية التي يزخر بها حوار الفيلم، وهو بالمناسبة حوار يخلو من أية دلالات لكنه شديد الواقعية والجودة والإمتاع، يصر المخرج على سخريته التي تصل إلى حد إهانة هؤلاء المجرمين؛ فها هو الزعيم الأسود الضخم يتم اغتصابه، وآخر-فينسنت فيجا- يتم قتله بمنتهى البساطة ويسقط قتيلاً في دورة مياه، أما الشاب الواثق بنفسه-تيم روث- فنراه في المشهد الأخير يخرج مع فتاته من المطعم في حالة يُرثى لها. لم ينجُ من هذا السيل من السخرية سوى المجرم التائب "صامويل ل. جاكسون".

هناك مبدأ معروف أن (الكذبة) التي لها تفاصيل يصعب إنكار مصداقيتها، هذا القاعدة يفهمها بوضوح "تارنتينو" بل أنه صرح بها على لسان أحد الشخصيات الثانوية في فيلمه الأول"كلاب المستودع" عندما أخبرت هذه الشخصيةُ الشرطيّ المتخفي-السيد أورانج (تيم روث)- أن يحكي للعصابة حكاية رجال الشرطة الذين وجدهم يتجاذبون أطراف الحديث في إحدى دورات المياه بمحطة القطار أثناء عملية تهريبه لكمية كبيرة من المخدرات وكيف تصرف معهم بأنه لم يهرب بل دخل لقضاء حاجته وكيف أنه استفزهم كذلك। هذه الحكاية تحوي تفاصيل وتحوي كذلك نقاط ضعف إذ أنه من غير المُقنِع أن يسير أي مهرب بكمية كبيرة من الماريجوانا ويتجول بها هكذا في الشارع ومحطة القطار، كما أنه من غير المقنع أن يمضي هذا المهرب في هدوئه إلي الحد الذي يجعله يستفز رجال الشرطة، ولكن هنا يظهر المبدأ الثاني الذي ينص على أن نقاط الضعف في الحكايات تجعلها أحياناً أكثر قابلية للتصديق. هذان المبدآن يفهمهما المخرج السينارست لذلك نجد أن لهما بالغ الأثر في صناعته لتفاصيل الشخصيات وبعض الانحناءات في سيناريو الفيلم.

أما عن التفاصيل في شخصيات "تارنتينو" فهي تظهر بوضوح منذ فيلمه الأول "كلاب المستودع" بخاصة في شخصية السيد (بلوند) المجرم السادي الذي يستمتع بتعذيب أحد رجال الشرطة ويقطع أذنه ويشرع في حرقه حياً كل هذا وهو يستمع إلى أحد الأغنيات المرحة التي تنبعث من الراديو، تستمر هذا التفاصيل كذلك في "بلب فيكشن" ونراها في شخصية صديقة "بروس ويلز" البلهاء ذات الملامح الفرنسية الطفولية وطريقتها الساذجة الحديث، ونراها كذلك في شخصية سائقة التاكسي التي قامت بتوصيل "بروس ويلز" بعد انتهاء المباراة، فتاه ذات اسم غريب وشكل غريب ولكنة عجيبة، وكذلك زوجة بائع المخدرات التي تضع في وجهها عشرات الحلقان، أما أوضح الأمثلة فهي شخصية السيد"وولف" (هارفي كيتل) المجرم الهادئ المنظم الذي يعرف ما يفعل جيداً.

تفاصيل وتفاصيل ... هذا هو أبرز ما يميز سينما هذا المخرج الذي صنع علاماته الخاصة أو بكلمة أخرى فنحن نستطيع أن نقول بكونه قد نفض عنه كلاشيهات الآخرين ليصنع كلاشيهاته الخاصة به.

أما عن القاعدة الثانية الخاصة بنقاط الضعف في الحكايات فنحن نراها في أكثر من موضع في هذا الفيلم، الرجل الذي يطلق على ترافولتا وجاكسون وابلاً من الرصاص دون أن يصيبهما ولو بجرح، المقابلة الغير منطقية لـ"بروس ويلز" وزعيم العصابة في الشارع، كل هذا ينجح "كونتن تارنتينو" بطريقة عجيبة في جعله مقنعاً بل سبباُ في جعل أحداث الفيلم أكثر منطقية.

كما اتفقنا مسبقاً أن الفيلم هو قطعة من الـ "بلب فيكشن" بلا أي نية لإنتاج شيء له أبعاد ودلالات، ولكننا نلحظ كذلك أن هناك أشياء تستحق الالتفات دون أن يكون لها عمق ما، ولكنها موجودة بالفيلم،أشياء -كما يقول أحد الأصدقاء- تشبه قصص أجاتا كريستي التي تنشط العقل ليعمل في ملاحظات لا يميزها سوى كونها طريفة تستحق الانتباه.

مثلاً نلاحظ أن الجرائم تحدث غالباً في وقت الصباح قبل الإفطار، "ترافولتا" و"جاكسون" قتلا أربعة أشخاص ثم ذهبا لتناول الإفطار وأثناء الطعام يتعرض المكان لمحاولة سرقة بالإكراه. "بروس ويلز" خرج لاسترداد ساعته لكنه قبل أن يعود يقتل شخصين ويتعرض وزعيم العصابة "مارسيلاس والاس" لمحاولة اغتصاب ... هكذا ببساطة تامة وكأنها أمور اعتيادية يفعلها (الأمريكان) يومياُ قبل الإفطار.

نلاحظ كذلك جون ترافولتا في دورة المياه يقرأ مجلة من نوعية الـ "بلب فيكشن" ويخرج ليجد كارثة في انتظاره، تكرر هذا الموقف ثلاث مرات خلال الفيلم.

نقطة طريفة أخرى ولكني لم ألحظها إلا بعد أن نبهني إليها أحد الأصدقاء، وهي أن هناك تدرج في أفعال الخير التي يؤديها الأشرار، أول هذه الأفعال هو امتناع "فينسنت فيجا" عن إقامة علاقة مع "ميا" زوجة الزعيم، وكان ذلك بسبب خوفه من زوجها، ثاني هذه الأفعال كان قيام الملاكم "بوتش" بإنقاذ زعيم العصابة "مارسيلاس والاس" من قبضة الشرطي الشاذ، وكان دافعه وراء ذلك هو أن يقدم المساعدة له أملاً في أن يعفوَ عنه، ثالث هذه الأفعال هو امتناع "صامويل ل. جاكسون" عن قتل "تيم روث" بل أعطاه بعض المال بدلاً من ذلك، ولكن دون دافع من وراء الخير هذه المرة، فعلها فقط كبداية لطريق التوبة. وهكذا نرى التدرج في فعل الخير من أجل تحقيق مصلحة أو دفع ضرر في الموقفين الأول والثاني إلى مرحلة الخير للخير التي تظهر في الموقف الثالث.

السيطرة على الممثلين كانت أحد أبرز عناصر الإجادة في صناعة هذا الفيلم، والسيطرة هنا لا تعني استخراج أقصى قدرات الممثل؛ ولكنها تعني الاستفادة من عنصر التمثيل في وصول المخرج لهدفه من وراء صناعة الفيلم وهو أمر صعب في ظل التعامل مع هذا الكم من النجوم ذوي الأسماء التجارية الجاذبة للجمهور.

هناك الكثير من التفاصيل والملاحظات التي يعمر بها "بلب فيكشن" أو التي تعمر بها سينما "كونتن تارنتينو" بوجه عام، ولكني أكتفي بما قلت. ونهاية أود أن أشير إلى أن كتابة هذا المقال لم تكن سوى محاولة اعتذار أقدمها لهذا الفيلم وصانعه الموهوب عن اندفاعي في الحكم عليه بشكل خاطئ عند مشاهدتي الأولى له، فهو نص متماسك للغاية بلا أخطاء تقريباً, وطريقة سرد رائدة ظهرت على شاكلتها الكثير من أعمال النصف الثاني من التسعينات و العقد الأول من هذا القرن، كما أظن أنها أثّرت في عقلية أسماء إخراجية لامعة مثل "كريستوفر نولان" و "أليخاندرو جونزاليس إناريتو"، ولذلك أو على ذلك فإني لم أقدم مقالاً نقدياً للفيلم بل هي رؤية عامة حوله ومحاولة لإبراز مواطن إعجابي به.

كتبه : أحمد مجدي رجب

القاهرة 2010

بنتين من مصر، تنويعات شخصية على رثاء الحياة


لم يكن في تصوري أن المخرج محمد أمين سيجود بشئ كهذا في يوم ما. استعراض سريع لأفلام المخرج يزيد من تأكيد هذه الفكرة المسبقة،كان ظهور الأول من خلال (فيلم ثقافي) في العام 2000 كوميديا عن الكبت الجنسي تستعرض محاولة شباب البحث عن مكان لمشاهدة شريط فيديو جنسي ، وهو الفيلم الذي لفت الأنظار اليه كمخرج وسيناريست ذو مستقبل لامع لكن مع ذلك فان شخصياته كانت تميل الى نماذج كاريكاتورية أكثر منها واقعية..ثم كان الانتظار لخمس سنوات حتى العودة بأسوأ أفلامه على الاطلاق (ليلة سقوط بغداد) وهو نوع من الربط بين هاجس الاحتلال لمصر الذي يراود ناظر مدرسة عجوز إبّان غزو العراق وبين الأزمة الجنسية (تيمته المفضلة) التي تلاحق الشباب وتمنعهم من تحقيق أي تقدم في حياتهم..الى ذلك الحين كانت أفلامه تتسم بجدية الأفكار المطروحة لكن بضعف ملحوظ على مستوى الكتابة (مع تفاوت بين العملين) و لكن الضعف الأكبر كان على مستوى الاخراج حتى جاء بعدها بخمس سنوات أخرى وقدم هذا العمل الذي يشي عن حق بولادة جديدة لمخرج نضج فنيا بشكل ملحوظ..

منذ اللقطة الأولى هنا تشعر أن هناك شئ مختلف طرأ على اسلوب المخرج في التعامل مع الكاميرا و المكان..لقطة بعيدة لغلاية داخل سفينة ،نلاحظ ازدياد مؤشرات الضغط،مع استخدام كولاج (مزج) للقطات من مظاهرات احتججاجية عديدة .. لقطة ستتكرر أكثر من مرة على طول الفيلم الذي سنكتشف مع قرب نهايته حقيقة معناها،لكن منذ البداية يبدو الرمز جليا فالضغط المتزايد ما هو الا معادل للضغط الممارس على فئات الشعب المصري،سياسيا واجتماعيا..وغرق السفينة قرب النهاية هو الغرق الذي يتنبأ به الفيلم اذا استمر الوضع على ما هو عليه.

سيناريو محمد أمين يستعرض بشكل متوازي حياة حنان و داليا،بنات عم قد تجاوزن الثلاثين من العمر دون زواج، الأولى أمينة مكتبة و الثانية طبيبة و كلاهما تحملان حلما مشتركا وهو الزواج..حنان تشتري قمصان النوم وتسجل عليها تاريخ الشراء على أمل أن ترتديهم يوما ما، تطلب من زميلتها (الساعّية) في العمل أن ترضع طفلها و ان لم يكن يوجد في صدرها حليب..تخيلها لكل رجل يعجبها أنه بالفعل زوجها في لقطات(فلاش فوروارد) متكررة يؤكد على كلامها بأن مشكلتها الأساسية ليست الاحتياج الجنسي،و إنما اشباع غريزتها العاطفية بعد أن وصل بها اليأس الى تقبل أن تذهب الى عيادة للكشف على عذريتها أمام من يريد أن يخطبها قبل أن يرجع في رأيه متعللا بخوفه وشكه في كل النساء.
داليا لا تختلف كثيرا في تفاصيل حياتها،فهي تكتفي يائسة برسم أحلامها العاطفية على الورق متنظرة أن ينصلح الحال،وهي تعتبر أن أي تقدم في حياتها لا يمكن دون يحدث دون الزواج وإشباع غرائزها الأساسية،فهي على مدار ست سنوات لم تتمكن من انهاء رسالة الماجستير بالرغم من كونها التاسعة على دفعتها و الأولى في الدبلومة بعد التخرج. حتى انها تضطر الى الاشتراك في حركات المعارضة -بناء على نصيحة صديقتها حنان-فقط لتتمكن من إيجاد عريسا مناسبا. على جانب آخر هناك (فريدة) وهي امرأة تقدم بها العمر دون زواج،صورتها وهي وحيدة هي الهاجس الذي يطارد حنان وداليا،هاجس أن يمضي بهما القطار لتصيرا مثلها وحيدتان ليس لهما الا ممارسة (التريكو) لقتل الوقت..و هو الذي يدفع حنان للبحث عن زوج بأي طريقة حتى وإن تنازلت عن المهر والشبكة و اقامة عرسها على من يكبرها بأعوام كثيرة حتى و إن أقام معها ووالدتها في الشقة. و حول هذا الثنائي ينسج السيناريو شخصيات ذكورية لا تقل ضعفا ، فالهجرة قاسم مشترك يبحث عنه كل الرجال في الفيلم بدءا من العرسان الذين امّا يعمل أحدهم في الخليج و امّا يسعى للعمل هناك، أو ابن خالة حنان الذي نراه قرابة النهاية بقليل يبصق في منديلا يرميه خلفه في أرض المطار بعد أن تحقق له حلم الهجرة أخيرا ، و شقيق داليا الذي تغرق به السفينة مع صديقه و يعود أكثر عجزا مما بدأ..ثم هناك ذلك ال(لا منتمي) الذي تتعرف عليه داليا عن طريق الانترنت و هو يمثل هنا فكرة أكثر منه شخصا..فهو الذي شاهد صور صديقه بعد أن عذبه الأمن قرر بعدها أنه لن يتزوج أبدا حتى لاينجب من يصبحوا في موقف صديقه هذا يوما ما.. حتى الشخص الوحيد الذي يبدو على استعداد للاستقرار والبقاء في البلاد يضطر الى السفر هاربا بعد أن فشل في تسديد قروضه للبنوك التي حصل عليها لاستصلاح أرض زراعية، رغم نجاحة في الزراعة بالفعل ووصوله الى نوع من الطماطم غير موجود في مصر، مشكلة السيناريو الأكبر تمثلت في الاعتماد المباشر على الحوار الذي وصل في بعض الأحيان الى حد المباشرة في الطرح..كما التعميم الذي أصبغه على الجهات الأمنية بتسميتها (جهة سيادية) كما استخدام تعبيرات مثل (المعارضة) و (الحكومة) بشكل مجرد - ولو اني أعتقد أن المخرج لجأ الى هذا الحل لأسباب رقابية - كما الموقف السياسي المشتت للفيلم مع تكرار الآية القرآنية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) في أكثر من موضع دون العمل على تأكيد معنى استخدام الآية،لو أني أعتقد أن تهميش الجانب السياسي هنا نابع بالأساس من انعدام علاقة الشخصيتان الرئيسيتان بالسياسة في حياتهما.

على مستوى الاخراج فالفيلم بكل تأكيد -كما ذكرت- الأكثر نضجا في مسيرة مخرجه، هناك تقديم لشخصيات رئيسية وفرعية بالغة الثراء مع التركيز على الأبعاد الواقعية بعيدا عن نزعة المخرج الكاريكاتورية التي شابت أعماله السابقة،هناك تعامل مع الكاميرا بمنظور مختلف خصوصا في لقطات تخيل حنان زواجها بالرجال التي تقابلهم، أو مشهد ارضاعها لطفل زميلتها، أو الجزء المصور في الأرض الزراعية المستصلحة،مشهد الكشف على عذرية حنان، كما تعامله مع مشهد البحث عن شقيق داليا بين قتلى السفينة الغارقة الذي كان يمكن أن يتحول الى ميلودراما فجة لولا الرقة الشديدة التي تعامل بها أمين في استخدام الكاميرا و آداء الممثلين..لكن على ذلك فقد شاب النصف الأول من الفيلم نوع من انعدام الاحساس بالزمن،وانتقال الأحداث بشكل سريع الكتروني دون منحنا لحظات كافية للتأمل و التفكير في سير الأمور، ساعد على ذلك أيضا الاعتماد المبالغ فيه على الحوار الذي كان يمكن الاستغناء عنه لحساب الصورة في كثير من الاحيان ،لكنه نجح في تلافي معظم هذه المشكلات في النصف الثاني من الفيلم. و تبقى الحلقة الأقوى في الفيلم هنا آداء الممثلين ،لا يوجد ممثل أقل من المستوى هنا، الثنائي الرئيسة هنا (زينة) في شخصية حنان، و (صبا مبارك) في شخصية داليا قدمتا تعاونا مدهشا على مستوى الآداء و ان كانت صبا مبارك مشهود لها بالاجادة في أعمالها السابقة،فزينة تقدم أفضل آداء لها على الاطلاق تفوقت به على ما قدمته في (واحد-صفر)،سلوى محمد علي لا تقل في مستوى الإجادة رغم قلة مساحة دورها لكنها نجحت تماما في تقديم صورة المرأة العانس التي تقدم بها العمر وحيدة.كما قدم (أمين) نماذج بالغة الثراء على مستوى الآداء الرجالي،طارق لطفي ظهر بشكل أكثر من رائع في شخصية (جمال) المهندس الزراعي الذي يحلم بالاستقرار و زراعة الأرض،أيضا التميز الذ أظهره (رامي وحيد) في آداءة لشخصية للمعارض الذي ينقل أفكارهم لحزب الحكومة كي يقوموا بتجهيز ردود عليها..لكن المفاجأة الكبرى في رأيي كانت من نصيب الثائر (اللا منتمي) - جمال أيضا (معظم الشخصيات الذكورية بهذا الاسم تأكيدا على فكرة تشاركهم في نفس المأساة)، حديثي عن الممثل أحمد وفيق الذي قدم تشخيصا ثائرا بحق للرافض لكل شئ المنعزل عن مجتمعه مكتفيا بالبقاء لساعات طوال باثّا احتاجه عبر الانترنت،يكفي أن تراقب تحكمه في انفعلاته في مشهد اعتقاله لكي تدرك أنك أمام طاقة ابداعية متفجرة قدمها محمد أمين هنا بجدارة..أيضا لا أفوت الاشادة بالموسيقى الرائعة التي قدمها (رعد خلف) و التي أكاد أجزم أنه لم يقدم مثلها على امتداد مشواره الفني كله..وهذا ان دل فهو يدل على وجود مخرج أصبح على درجة عالية من التمكن من استخدام أدواته و التعبير بها عن هاجس يمر بمعظم (الثائرين-السلبيين) في هذه الأيام،ليس الهاجس هو العنوسة ولم يكن هو الهجرة أيضا..بل كان هاجس(الاحساس بالحياة) الذي طالما حاولنا الوصول اليه.

بين الكلاب المسعورة وصورة بشير الجميل يصوغ ارى فولمان رقصته الخاصة على ايقاع الفالس.بين الكلاب المسعورة وصورة بشير الجميل يصوغ ارى فولمان رقصته الخاصة

وين العرب, وين ... بهذه الجملة من اللقطة الوثائقية الحية الوحيدة فى الفيلم اختار المخرج ارى فولمان أن ينهى رحلة التطهر من المسؤلية، وكأنه يقول بطريقة غير مباشرة, هذا هو دورى الحقيقى وقد قمت به على أكمل وجه وحاولت معالجة جنودى أم ما بقى فهو قضية العرب ليحلوها بمعرفتهم. والحق أنى أؤيده بعض الشئ فى رسالته- العلاجية- وأستغرب كل من وجه للفيلم ومخرجه من اتهامات باعتباره يحيد عن القضية الأصلية (مجزرة صبرا وشاتيلا) ويحاول تبرير موقف جنوده من الحرب، فأنا أرى أن رسالة الفيلم واقعية للغاية بل وقد تكون محمودة أيضا اذا ما أخذنا فى الاعتبار انتماء مخرجه (وصاحب القصة الحقيقية أيضا) القومى والعقدى.

- يبدأ الفيلم بمشهد لمجموعة من الكلاب السوداء تجرى فى الشوارع حتى تتوقف أمام أحد النوفذ التى يطل منها رجلا لا نعرفه، لاحقا نعرف أن هذا كان مجرد حلم يطارد أحد أصدقاء المخرج - الذى كان مجندا فى الجيش أيام حرب لبنان- مما دفعه أن يطلب من صديقة صنع فيلم للبحث عن حقيقة مجزرة صبرا وشاتيلا ومن المسؤول الحقيقى عنها متسائلا... أليست الأفلام طريقة للعلاج أيضا؟ - من هنا تبدو رسالة الفيلم جلية واضحة لا مواربة فيها أو قراءة لمشاهد بين السطور فالفيلم هدفه علاج بعض الجنود العائدين من حرب لبنان من المسؤولية النفسية الواقعة عليهم، والمخرج يوضح ذلك بكل صدق، ولكن، ما الذى سيكتشفه المخرج فولمان فى نهاية رحلة التطّهر تلك؟... الجواب ستعرفونه من خلال أحداث هذه التجربة السينمائية المثيرة للاهتمام.

الفيلم وثائقيا فى الأصل- الا أننا نراه مغرق فى الذاتية مفضلا الخاص على حساب العام وهو أمر ربما يفيد الهدف وراء صنع الفيلم فى الأصل لكنه على مستوى البنية السردية ملء بنقاط الضعف بداية من قلة المصادر المتاحة وكان يمكن للمخرج اذا تأنى فى البحث قليلا أن يجد مصادر أخرى، الا أنه اعتمد هنا على مجموعة أصدقاءه فى الجيش بالاضافة الى رون بن يشاى الذى كان من نقاط الضعف أيضا -لاحظوا المشهد الذى يمشى به متجنبا الرصاص- والعديد من التفاصيل على جعلت الفيلم يميل أكثر الى الروائية على الوثائقية الا أن السيناريو - مع هذا- لا يزال يحمل فى طياته فكرة مثيرة للأهتمام الى حد بعيد وبعض الحسنات التى دعّمت البنية الروائية للفيلم ويظهر ذلك فى الخط السردى الرئيسى فى رحلة المخرج للبحث عن تفسير لحلمه ويأخذنا من هنا فى عمق فلسفى لمحاولة استيحاء الدلالة الرمزية لما يراه المخرج، لكن مع ذلك لا يحاول السيناريو التعمق فى الأسباب أكثر من ذلك ويكتفى برمزية ذلك الحلمه.


- البطل الحقيقى لهذا العمل من وجهة نظر شخصية هو ارى فولمان (المخرج)، اجواءه البديعة هى ما أكسبت هذا العمل رونقه الخاص فهو يقدم تمازجا رائع بين الأجواء السيريالية متمثلة فى تضارب الألوان التى تعطى مقدار كبير من القتامة والكأابة مما يدعم فكرة الذاتيه التى تحدثت عنها بالأعلى وبين المشاهد الواقعية فى تصوير الشهادات الواقعية على المجزرة، يصور لنا بحرفيه كبيرة -مراهقة- جنود الجيش الاسرائيلى و حالة الجهل التى أصابتهم -حسب وجهة نظر الفيلم- لقطاته لشارون التى تلقى بالمسؤلية على المؤسسة العسكرية، تكوين مشهد الحلم البديع حين يرى المخرج نفسه خارجا من البحر -ومعه اخرين- عراه مما يؤكد على فكرة المراهقة التى يتبنّاها الفيلم كوسيلة للعلاج، كل تلك المشاهد صنعت تكوينا بصريا مميزا يستحق التقدير.


- بشكل عام يمثل (الرقص مع بشير) تجربة مميزة باعتباره أول فيلم وثائقى ينفّذ باسلوب الرسوم المتحركة، ويبقى فيلم جدير بالمشاهدة