30‏/11‏/2010

عن كونتن تارنتينو و بلب فيكشن وأشياء أخرى


عقب انتهائي من مشاهدة فيلم "بلب فيكشن" شعرت بأني قد تعرضت لخدعة ما؛ فقد كنت أعِدُ نفسي قبله بساعتين من التمتع السينمائي العظيم، ولكني باستثناء الإعجاب بطريقة السرد لم أعجب بشيء آخر؛ إذ أن هذه النوعية من الأفلام لا تروق أمثالي ولاتجذبهم، كما أن الفيلم لا يحوي أيَ عمقٍ في الفكرة.
عند هذه الجملة الأخيرة تحديداً -"أن الفيلم لا يحوي أيَ عمقٍ في الفكرة "- توقفت، وتذكرت كلمة قالها أحدُ الأصدقاء -ساخراً من مدعي العمق- لصديق آخر كتب تدوينة ساخرة، قال :لِمَ لم تكتبْ في مقدمة مقالك :طالبو العمق يمتنعون عن قراءة هذا المقال. تذكرت الكلمة وسخرت من نفسي كثيراً وبدأت أفكر في الفيلم من زاوية مختلفة. أول ما نظرت إلى اسم الفيلم" Pulp Fiction"ونظرت كذلك للملصق الدعائيّ للفيلم، أما الاسم فهو مصطلح أمريكي يُطلق على نوع من الكتابات موضوعها دائماً هو رجال العصابات والأبطال الخارقين .... إلخ، وتُطبع هذه المجلات على ورق خشن داكن غير مكتمل الصنع، كما أن هذا المصطلح يقترب كثيراً من معنى كلمة "بوب أرت" ويُقصد بها الكتابات الموجهة للعوام من غير ذوي الثقافة أي"الشعبية"। أما الملصق الدعائي للفيلم فهو مصمم على شكل غلاف إحدى هذه المجلات تظر فيه "أوما ثورمان" ممسكة بمجلة من نوعية الـ "بلب فيكشن" . لم يكتفِ تارنتينو بذلك، بل أورد هذا المعنى الذي أوضحته لك في افتتاحية فيلمه، أي أن الرجل يقسم لنا برأس أبيه أنه سوف يقدم في فيلمه هذا عملاً سينمائياً يقوم بالأساس على هذا النوع من الكتابات وليس عملاً ذا عمق و أبعاد.


على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق فإن المشاهد الـ (عميق!!) لا يملك إلا أن يستمتع بالعمل بهذه الطريقة أو أن يمتنع عن مشاهدته بالكلية، أما أن (يركب دماغة) -مثلما فعلت أنا- ويحاول أن يقيم الفيلم بنفس التناول المتبع مع أفلام "فرانسيس فورد كوبولا" مثلاً فهذا دربٌ من الغباء المتحجر. يقول "د. أحمد خالد توفيق" بهذا الصدد أنه مثل أن تحضر مباراة لكرة القدم تتبعها بأخرى للتنس ثم تتعجب من أن لاعبي التنس يضربون الكرة بالمضارب بدلاً من الأقدام، بل وتتعجب كذلك من حجم الكرة وشكل الملعب الذي تقطعه عرضاً شبكة تقسمه إلى نصفين، لكل لعبة قواعدها وشكلها الخاص بها ولا يمكن أن تحكم على إحداها بقواعد الأخرى.

يقول "أنيس منصور" أن القطع الفنية تشبه ثمرات الفاكهة، يجب أن تعرف طبيعة كل ثمرة منها كي تختار الطريقة المناسبة لتناولها؛ فالبعض تأكله بيدك مباشرة، والبعض الآخر يحتاج سكيناً أو شوكة أو ملعقة، بعضها يحتاجُ تقشيراً أو تكسيراً أو أن تعصره....إلخ. على هذا الأساس يجب أن يكون تعاملنا مع أفلام السينما؛ فمعالجة مخرجين لنفس الفكرة تنتج أفلاماً مختلفة بشكل تام عن بعضها، مثلاً معالجة "فكرة التلصص على الجيران من النافذة" أخرج منها "ألفريد هتشكوك" فيلم"نافذة خلفية" الفيلم الذي يعد تحدياً يُدرًّس لبناء حكاية فيلمية كاملة من زاوية بصرية واحدة تُوضع فيها الكاميرا طوال الفيلم، بينما عند "كريستوف كيسلوفسكي" كان فيلمه المسمى بـ "فيلم قصير عن الحب" وهو قطعة شعرية جميلة من قطع "كيسلوفسكي" تختلف بشكل مطلق عن معالجة "هيتشكوك" . كما أن مُراد المخرج من صناعته للفيلم يحتم علينا تغيير نظرتنا من فيلمٍ لأخر؛ فيستحيل أن نقيم فيلم "غير مغتفر" لـ "كلينت إيستوود" بنفس المعايير التي نضعها عند مشاهدة فيلم "الطيب والسيئ والقبيح" لـ "سيرجيو ليوني"، بل أن أفلاماً لنفس المخرج ربما تختلف عن بعضها بشكل مطلق؛ فأفلام مثل "الفك" و "قائمة تشاندلر" و "ذكاء اصطناعي" و "حديقة العصر الجوراسي" جميعاً من إخراج "ستيفن سبيلبيرج" ولكن لكلٍ منها طريقته في التحليل والتناول.

الخلاصة أن كلَ مخرجٍ مبدعٌ بطريقته وكلاً منهم عظيمٌ في دربه الذي ينتهجه، "إنجمار برجمان" و "ألفريد هيتشكوك" كلاهما من أعظم عشرة مخرجين في تاريخ السينما، ولكن مقارنة أعمال أحدهما بأعمال الآخر تُعد درباً من إضاعة الوقت و الجهد.

وبهذه الخلفية الجديدة أعدت تأمل فيلم "بلب فيكشن" فكان أول ما لفت انتباهي هو نفس موطن إعجابي السابق، طريقة السرد السينمائية المتبعة في الفيلم. تدور أحداث الفيلم في الفترة الزمنية الواقعة بين صباح أحد الأيام و صباح اليوم الذي يليه، تقع خلال هذه الفترة عدة مواقف يتم عرضها على الشاشة بدون الالتزام بالترتيب الزمني لحدوثها مع عرض بعض هذه الأحداث من خلال وجهتي نظر مختلفتين (تقنية البوليفونيك ) وقد استخدم المخرج هذه التقنية أكثر من مرة خلال الفيلم، كما أن النص مقسم إلى عدة مقاطع لكل منهم عنوان وبطل، فبطل أحدها هو "تيم روث" بينما "بروس ويلز" هو بطل مقطع آخر ومقطع ثالث بطلاه هما "ترافولتا" و "أوما ثورمان"، أما البقية فكانت بطولتها من نصيب "جون ترافولتا" و"صامويل ل. جاكسون"، وبين هذه المقاطع يقفز الأبطال، فنرى "بروس ويلز" يظهر بشكل ثانوي في مشهد رجوع "ترافولتا وجاكسون" إلى البار حيث ينتظرهم رئيس العصابة "مارسيلاس والاس" ولا يظهر ثانية في بقية هذا المقطع من الفيلم ونشاهد أوما ثورمان (ميا) كشخصية رئيسية في مشاهد سهرتها مع ترافولتا (فينسنت فيجا) وبعض قليل تظهر بشكل ثانوي طفيف في مقطع تالٍ من الفيلم وهو نفس المقطع الذي يظهر فيه "ترافولتا" ككومبارس صامت يقتله المصارع بوتش (بروس ويلز) في ثانية واحدة .بلغ "تارنتينو "قمة الإتقان في استخدام هذه التقنيات عند مشهد نهاية الفيلم الذي لم يكن سوى استكمالاً لافتتاحيته وإعادة سرد لها من منظور بطل مختلف.

قضى "كونتن تارنتينو" سنوات من شبابه يعمل في مستودع لأفلام الفيديو، شاهد فيها عدداً ضخماً من الأفلام مما جعله على دراية تامة بـ "كلاشيهات" أفلام الحركة والعصابات، وقد قدم في فيلمه هذا العديد من المواقف التي يسخر فيها من هذه الكلاشيهات خاصة التي تخص رجال العصابات المحنكين!! بل بلغ به الحد إلى إهانتهم في بعض مشاهد الفيلم. من أجمل هذه الصور الساخرة هي لقطة النهاية التي نرى فيها "جون ترافولتا" و"صاومويل ل. جاكسون" يخرجون من المطعم وكلٌ منهم يضع مسدسه في الشورت!!، كما نراهما في مشهد آخر يتلويان –وهم الرجال شديدو المراس- من المياه التي يرشها "هارفي كيتل"، ناهيك عن الكم الهائل من الألفاظ النابية التي يزخر بها حوار الفيلم، وهو بالمناسبة حوار يخلو من أية دلالات لكنه شديد الواقعية والجودة والإمتاع، يصر المخرج على سخريته التي تصل إلى حد إهانة هؤلاء المجرمين؛ فها هو الزعيم الأسود الضخم يتم اغتصابه، وآخر-فينسنت فيجا- يتم قتله بمنتهى البساطة ويسقط قتيلاً في دورة مياه، أما الشاب الواثق بنفسه-تيم روث- فنراه في المشهد الأخير يخرج مع فتاته من المطعم في حالة يُرثى لها. لم ينجُ من هذا السيل من السخرية سوى المجرم التائب "صامويل ل. جاكسون".

هناك مبدأ معروف أن (الكذبة) التي لها تفاصيل يصعب إنكار مصداقيتها، هذا القاعدة يفهمها بوضوح "تارنتينو" بل أنه صرح بها على لسان أحد الشخصيات الثانوية في فيلمه الأول"كلاب المستودع" عندما أخبرت هذه الشخصيةُ الشرطيّ المتخفي-السيد أورانج (تيم روث)- أن يحكي للعصابة حكاية رجال الشرطة الذين وجدهم يتجاذبون أطراف الحديث في إحدى دورات المياه بمحطة القطار أثناء عملية تهريبه لكمية كبيرة من المخدرات وكيف تصرف معهم بأنه لم يهرب بل دخل لقضاء حاجته وكيف أنه استفزهم كذلك। هذه الحكاية تحوي تفاصيل وتحوي كذلك نقاط ضعف إذ أنه من غير المُقنِع أن يسير أي مهرب بكمية كبيرة من الماريجوانا ويتجول بها هكذا في الشارع ومحطة القطار، كما أنه من غير المقنع أن يمضي هذا المهرب في هدوئه إلي الحد الذي يجعله يستفز رجال الشرطة، ولكن هنا يظهر المبدأ الثاني الذي ينص على أن نقاط الضعف في الحكايات تجعلها أحياناً أكثر قابلية للتصديق. هذان المبدآن يفهمهما المخرج السينارست لذلك نجد أن لهما بالغ الأثر في صناعته لتفاصيل الشخصيات وبعض الانحناءات في سيناريو الفيلم.

أما عن التفاصيل في شخصيات "تارنتينو" فهي تظهر بوضوح منذ فيلمه الأول "كلاب المستودع" بخاصة في شخصية السيد (بلوند) المجرم السادي الذي يستمتع بتعذيب أحد رجال الشرطة ويقطع أذنه ويشرع في حرقه حياً كل هذا وهو يستمع إلى أحد الأغنيات المرحة التي تنبعث من الراديو، تستمر هذا التفاصيل كذلك في "بلب فيكشن" ونراها في شخصية صديقة "بروس ويلز" البلهاء ذات الملامح الفرنسية الطفولية وطريقتها الساذجة الحديث، ونراها كذلك في شخصية سائقة التاكسي التي قامت بتوصيل "بروس ويلز" بعد انتهاء المباراة، فتاه ذات اسم غريب وشكل غريب ولكنة عجيبة، وكذلك زوجة بائع المخدرات التي تضع في وجهها عشرات الحلقان، أما أوضح الأمثلة فهي شخصية السيد"وولف" (هارفي كيتل) المجرم الهادئ المنظم الذي يعرف ما يفعل جيداً.

تفاصيل وتفاصيل ... هذا هو أبرز ما يميز سينما هذا المخرج الذي صنع علاماته الخاصة أو بكلمة أخرى فنحن نستطيع أن نقول بكونه قد نفض عنه كلاشيهات الآخرين ليصنع كلاشيهاته الخاصة به.

أما عن القاعدة الثانية الخاصة بنقاط الضعف في الحكايات فنحن نراها في أكثر من موضع في هذا الفيلم، الرجل الذي يطلق على ترافولتا وجاكسون وابلاً من الرصاص دون أن يصيبهما ولو بجرح، المقابلة الغير منطقية لـ"بروس ويلز" وزعيم العصابة في الشارع، كل هذا ينجح "كونتن تارنتينو" بطريقة عجيبة في جعله مقنعاً بل سبباُ في جعل أحداث الفيلم أكثر منطقية.

كما اتفقنا مسبقاً أن الفيلم هو قطعة من الـ "بلب فيكشن" بلا أي نية لإنتاج شيء له أبعاد ودلالات، ولكننا نلحظ كذلك أن هناك أشياء تستحق الالتفات دون أن يكون لها عمق ما، ولكنها موجودة بالفيلم،أشياء -كما يقول أحد الأصدقاء- تشبه قصص أجاتا كريستي التي تنشط العقل ليعمل في ملاحظات لا يميزها سوى كونها طريفة تستحق الانتباه.

مثلاً نلاحظ أن الجرائم تحدث غالباً في وقت الصباح قبل الإفطار، "ترافولتا" و"جاكسون" قتلا أربعة أشخاص ثم ذهبا لتناول الإفطار وأثناء الطعام يتعرض المكان لمحاولة سرقة بالإكراه. "بروس ويلز" خرج لاسترداد ساعته لكنه قبل أن يعود يقتل شخصين ويتعرض وزعيم العصابة "مارسيلاس والاس" لمحاولة اغتصاب ... هكذا ببساطة تامة وكأنها أمور اعتيادية يفعلها (الأمريكان) يومياُ قبل الإفطار.

نلاحظ كذلك جون ترافولتا في دورة المياه يقرأ مجلة من نوعية الـ "بلب فيكشن" ويخرج ليجد كارثة في انتظاره، تكرر هذا الموقف ثلاث مرات خلال الفيلم.

نقطة طريفة أخرى ولكني لم ألحظها إلا بعد أن نبهني إليها أحد الأصدقاء، وهي أن هناك تدرج في أفعال الخير التي يؤديها الأشرار، أول هذه الأفعال هو امتناع "فينسنت فيجا" عن إقامة علاقة مع "ميا" زوجة الزعيم، وكان ذلك بسبب خوفه من زوجها، ثاني هذه الأفعال كان قيام الملاكم "بوتش" بإنقاذ زعيم العصابة "مارسيلاس والاس" من قبضة الشرطي الشاذ، وكان دافعه وراء ذلك هو أن يقدم المساعدة له أملاً في أن يعفوَ عنه، ثالث هذه الأفعال هو امتناع "صامويل ل. جاكسون" عن قتل "تيم روث" بل أعطاه بعض المال بدلاً من ذلك، ولكن دون دافع من وراء الخير هذه المرة، فعلها فقط كبداية لطريق التوبة. وهكذا نرى التدرج في فعل الخير من أجل تحقيق مصلحة أو دفع ضرر في الموقفين الأول والثاني إلى مرحلة الخير للخير التي تظهر في الموقف الثالث.

السيطرة على الممثلين كانت أحد أبرز عناصر الإجادة في صناعة هذا الفيلم، والسيطرة هنا لا تعني استخراج أقصى قدرات الممثل؛ ولكنها تعني الاستفادة من عنصر التمثيل في وصول المخرج لهدفه من وراء صناعة الفيلم وهو أمر صعب في ظل التعامل مع هذا الكم من النجوم ذوي الأسماء التجارية الجاذبة للجمهور.

هناك الكثير من التفاصيل والملاحظات التي يعمر بها "بلب فيكشن" أو التي تعمر بها سينما "كونتن تارنتينو" بوجه عام، ولكني أكتفي بما قلت. ونهاية أود أن أشير إلى أن كتابة هذا المقال لم تكن سوى محاولة اعتذار أقدمها لهذا الفيلم وصانعه الموهوب عن اندفاعي في الحكم عليه بشكل خاطئ عند مشاهدتي الأولى له، فهو نص متماسك للغاية بلا أخطاء تقريباً, وطريقة سرد رائدة ظهرت على شاكلتها الكثير من أعمال النصف الثاني من التسعينات و العقد الأول من هذا القرن، كما أظن أنها أثّرت في عقلية أسماء إخراجية لامعة مثل "كريستوفر نولان" و "أليخاندرو جونزاليس إناريتو"، ولذلك أو على ذلك فإني لم أقدم مقالاً نقدياً للفيلم بل هي رؤية عامة حوله ومحاولة لإبراز مواطن إعجابي به.

كتبه : أحمد مجدي رجب

القاهرة 2010

بنتين من مصر، تنويعات شخصية على رثاء الحياة


لم يكن في تصوري أن المخرج محمد أمين سيجود بشئ كهذا في يوم ما. استعراض سريع لأفلام المخرج يزيد من تأكيد هذه الفكرة المسبقة،كان ظهور الأول من خلال (فيلم ثقافي) في العام 2000 كوميديا عن الكبت الجنسي تستعرض محاولة شباب البحث عن مكان لمشاهدة شريط فيديو جنسي ، وهو الفيلم الذي لفت الأنظار اليه كمخرج وسيناريست ذو مستقبل لامع لكن مع ذلك فان شخصياته كانت تميل الى نماذج كاريكاتورية أكثر منها واقعية..ثم كان الانتظار لخمس سنوات حتى العودة بأسوأ أفلامه على الاطلاق (ليلة سقوط بغداد) وهو نوع من الربط بين هاجس الاحتلال لمصر الذي يراود ناظر مدرسة عجوز إبّان غزو العراق وبين الأزمة الجنسية (تيمته المفضلة) التي تلاحق الشباب وتمنعهم من تحقيق أي تقدم في حياتهم..الى ذلك الحين كانت أفلامه تتسم بجدية الأفكار المطروحة لكن بضعف ملحوظ على مستوى الكتابة (مع تفاوت بين العملين) و لكن الضعف الأكبر كان على مستوى الاخراج حتى جاء بعدها بخمس سنوات أخرى وقدم هذا العمل الذي يشي عن حق بولادة جديدة لمخرج نضج فنيا بشكل ملحوظ..

منذ اللقطة الأولى هنا تشعر أن هناك شئ مختلف طرأ على اسلوب المخرج في التعامل مع الكاميرا و المكان..لقطة بعيدة لغلاية داخل سفينة ،نلاحظ ازدياد مؤشرات الضغط،مع استخدام كولاج (مزج) للقطات من مظاهرات احتججاجية عديدة .. لقطة ستتكرر أكثر من مرة على طول الفيلم الذي سنكتشف مع قرب نهايته حقيقة معناها،لكن منذ البداية يبدو الرمز جليا فالضغط المتزايد ما هو الا معادل للضغط الممارس على فئات الشعب المصري،سياسيا واجتماعيا..وغرق السفينة قرب النهاية هو الغرق الذي يتنبأ به الفيلم اذا استمر الوضع على ما هو عليه.

سيناريو محمد أمين يستعرض بشكل متوازي حياة حنان و داليا،بنات عم قد تجاوزن الثلاثين من العمر دون زواج، الأولى أمينة مكتبة و الثانية طبيبة و كلاهما تحملان حلما مشتركا وهو الزواج..حنان تشتري قمصان النوم وتسجل عليها تاريخ الشراء على أمل أن ترتديهم يوما ما، تطلب من زميلتها (الساعّية) في العمل أن ترضع طفلها و ان لم يكن يوجد في صدرها حليب..تخيلها لكل رجل يعجبها أنه بالفعل زوجها في لقطات(فلاش فوروارد) متكررة يؤكد على كلامها بأن مشكلتها الأساسية ليست الاحتياج الجنسي،و إنما اشباع غريزتها العاطفية بعد أن وصل بها اليأس الى تقبل أن تذهب الى عيادة للكشف على عذريتها أمام من يريد أن يخطبها قبل أن يرجع في رأيه متعللا بخوفه وشكه في كل النساء.
داليا لا تختلف كثيرا في تفاصيل حياتها،فهي تكتفي يائسة برسم أحلامها العاطفية على الورق متنظرة أن ينصلح الحال،وهي تعتبر أن أي تقدم في حياتها لا يمكن دون يحدث دون الزواج وإشباع غرائزها الأساسية،فهي على مدار ست سنوات لم تتمكن من انهاء رسالة الماجستير بالرغم من كونها التاسعة على دفعتها و الأولى في الدبلومة بعد التخرج. حتى انها تضطر الى الاشتراك في حركات المعارضة -بناء على نصيحة صديقتها حنان-فقط لتتمكن من إيجاد عريسا مناسبا. على جانب آخر هناك (فريدة) وهي امرأة تقدم بها العمر دون زواج،صورتها وهي وحيدة هي الهاجس الذي يطارد حنان وداليا،هاجس أن يمضي بهما القطار لتصيرا مثلها وحيدتان ليس لهما الا ممارسة (التريكو) لقتل الوقت..و هو الذي يدفع حنان للبحث عن زوج بأي طريقة حتى وإن تنازلت عن المهر والشبكة و اقامة عرسها على من يكبرها بأعوام كثيرة حتى و إن أقام معها ووالدتها في الشقة. و حول هذا الثنائي ينسج السيناريو شخصيات ذكورية لا تقل ضعفا ، فالهجرة قاسم مشترك يبحث عنه كل الرجال في الفيلم بدءا من العرسان الذين امّا يعمل أحدهم في الخليج و امّا يسعى للعمل هناك، أو ابن خالة حنان الذي نراه قرابة النهاية بقليل يبصق في منديلا يرميه خلفه في أرض المطار بعد أن تحقق له حلم الهجرة أخيرا ، و شقيق داليا الذي تغرق به السفينة مع صديقه و يعود أكثر عجزا مما بدأ..ثم هناك ذلك ال(لا منتمي) الذي تتعرف عليه داليا عن طريق الانترنت و هو يمثل هنا فكرة أكثر منه شخصا..فهو الذي شاهد صور صديقه بعد أن عذبه الأمن قرر بعدها أنه لن يتزوج أبدا حتى لاينجب من يصبحوا في موقف صديقه هذا يوما ما.. حتى الشخص الوحيد الذي يبدو على استعداد للاستقرار والبقاء في البلاد يضطر الى السفر هاربا بعد أن فشل في تسديد قروضه للبنوك التي حصل عليها لاستصلاح أرض زراعية، رغم نجاحة في الزراعة بالفعل ووصوله الى نوع من الطماطم غير موجود في مصر، مشكلة السيناريو الأكبر تمثلت في الاعتماد المباشر على الحوار الذي وصل في بعض الأحيان الى حد المباشرة في الطرح..كما التعميم الذي أصبغه على الجهات الأمنية بتسميتها (جهة سيادية) كما استخدام تعبيرات مثل (المعارضة) و (الحكومة) بشكل مجرد - ولو اني أعتقد أن المخرج لجأ الى هذا الحل لأسباب رقابية - كما الموقف السياسي المشتت للفيلم مع تكرار الآية القرآنية (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) في أكثر من موضع دون العمل على تأكيد معنى استخدام الآية،لو أني أعتقد أن تهميش الجانب السياسي هنا نابع بالأساس من انعدام علاقة الشخصيتان الرئيسيتان بالسياسة في حياتهما.

على مستوى الاخراج فالفيلم بكل تأكيد -كما ذكرت- الأكثر نضجا في مسيرة مخرجه، هناك تقديم لشخصيات رئيسية وفرعية بالغة الثراء مع التركيز على الأبعاد الواقعية بعيدا عن نزعة المخرج الكاريكاتورية التي شابت أعماله السابقة،هناك تعامل مع الكاميرا بمنظور مختلف خصوصا في لقطات تخيل حنان زواجها بالرجال التي تقابلهم، أو مشهد ارضاعها لطفل زميلتها، أو الجزء المصور في الأرض الزراعية المستصلحة،مشهد الكشف على عذرية حنان، كما تعامله مع مشهد البحث عن شقيق داليا بين قتلى السفينة الغارقة الذي كان يمكن أن يتحول الى ميلودراما فجة لولا الرقة الشديدة التي تعامل بها أمين في استخدام الكاميرا و آداء الممثلين..لكن على ذلك فقد شاب النصف الأول من الفيلم نوع من انعدام الاحساس بالزمن،وانتقال الأحداث بشكل سريع الكتروني دون منحنا لحظات كافية للتأمل و التفكير في سير الأمور، ساعد على ذلك أيضا الاعتماد المبالغ فيه على الحوار الذي كان يمكن الاستغناء عنه لحساب الصورة في كثير من الاحيان ،لكنه نجح في تلافي معظم هذه المشكلات في النصف الثاني من الفيلم. و تبقى الحلقة الأقوى في الفيلم هنا آداء الممثلين ،لا يوجد ممثل أقل من المستوى هنا، الثنائي الرئيسة هنا (زينة) في شخصية حنان، و (صبا مبارك) في شخصية داليا قدمتا تعاونا مدهشا على مستوى الآداء و ان كانت صبا مبارك مشهود لها بالاجادة في أعمالها السابقة،فزينة تقدم أفضل آداء لها على الاطلاق تفوقت به على ما قدمته في (واحد-صفر)،سلوى محمد علي لا تقل في مستوى الإجادة رغم قلة مساحة دورها لكنها نجحت تماما في تقديم صورة المرأة العانس التي تقدم بها العمر وحيدة.كما قدم (أمين) نماذج بالغة الثراء على مستوى الآداء الرجالي،طارق لطفي ظهر بشكل أكثر من رائع في شخصية (جمال) المهندس الزراعي الذي يحلم بالاستقرار و زراعة الأرض،أيضا التميز الذ أظهره (رامي وحيد) في آداءة لشخصية للمعارض الذي ينقل أفكارهم لحزب الحكومة كي يقوموا بتجهيز ردود عليها..لكن المفاجأة الكبرى في رأيي كانت من نصيب الثائر (اللا منتمي) - جمال أيضا (معظم الشخصيات الذكورية بهذا الاسم تأكيدا على فكرة تشاركهم في نفس المأساة)، حديثي عن الممثل أحمد وفيق الذي قدم تشخيصا ثائرا بحق للرافض لكل شئ المنعزل عن مجتمعه مكتفيا بالبقاء لساعات طوال باثّا احتاجه عبر الانترنت،يكفي أن تراقب تحكمه في انفعلاته في مشهد اعتقاله لكي تدرك أنك أمام طاقة ابداعية متفجرة قدمها محمد أمين هنا بجدارة..أيضا لا أفوت الاشادة بالموسيقى الرائعة التي قدمها (رعد خلف) و التي أكاد أجزم أنه لم يقدم مثلها على امتداد مشواره الفني كله..وهذا ان دل فهو يدل على وجود مخرج أصبح على درجة عالية من التمكن من استخدام أدواته و التعبير بها عن هاجس يمر بمعظم (الثائرين-السلبيين) في هذه الأيام،ليس الهاجس هو العنوسة ولم يكن هو الهجرة أيضا..بل كان هاجس(الاحساس بالحياة) الذي طالما حاولنا الوصول اليه.

بين الكلاب المسعورة وصورة بشير الجميل يصوغ ارى فولمان رقصته الخاصة على ايقاع الفالس.بين الكلاب المسعورة وصورة بشير الجميل يصوغ ارى فولمان رقصته الخاصة

وين العرب, وين ... بهذه الجملة من اللقطة الوثائقية الحية الوحيدة فى الفيلم اختار المخرج ارى فولمان أن ينهى رحلة التطهر من المسؤلية، وكأنه يقول بطريقة غير مباشرة, هذا هو دورى الحقيقى وقد قمت به على أكمل وجه وحاولت معالجة جنودى أم ما بقى فهو قضية العرب ليحلوها بمعرفتهم. والحق أنى أؤيده بعض الشئ فى رسالته- العلاجية- وأستغرب كل من وجه للفيلم ومخرجه من اتهامات باعتباره يحيد عن القضية الأصلية (مجزرة صبرا وشاتيلا) ويحاول تبرير موقف جنوده من الحرب، فأنا أرى أن رسالة الفيلم واقعية للغاية بل وقد تكون محمودة أيضا اذا ما أخذنا فى الاعتبار انتماء مخرجه (وصاحب القصة الحقيقية أيضا) القومى والعقدى.

- يبدأ الفيلم بمشهد لمجموعة من الكلاب السوداء تجرى فى الشوارع حتى تتوقف أمام أحد النوفذ التى يطل منها رجلا لا نعرفه، لاحقا نعرف أن هذا كان مجرد حلم يطارد أحد أصدقاء المخرج - الذى كان مجندا فى الجيش أيام حرب لبنان- مما دفعه أن يطلب من صديقة صنع فيلم للبحث عن حقيقة مجزرة صبرا وشاتيلا ومن المسؤول الحقيقى عنها متسائلا... أليست الأفلام طريقة للعلاج أيضا؟ - من هنا تبدو رسالة الفيلم جلية واضحة لا مواربة فيها أو قراءة لمشاهد بين السطور فالفيلم هدفه علاج بعض الجنود العائدين من حرب لبنان من المسؤولية النفسية الواقعة عليهم، والمخرج يوضح ذلك بكل صدق، ولكن، ما الذى سيكتشفه المخرج فولمان فى نهاية رحلة التطّهر تلك؟... الجواب ستعرفونه من خلال أحداث هذه التجربة السينمائية المثيرة للاهتمام.

الفيلم وثائقيا فى الأصل- الا أننا نراه مغرق فى الذاتية مفضلا الخاص على حساب العام وهو أمر ربما يفيد الهدف وراء صنع الفيلم فى الأصل لكنه على مستوى البنية السردية ملء بنقاط الضعف بداية من قلة المصادر المتاحة وكان يمكن للمخرج اذا تأنى فى البحث قليلا أن يجد مصادر أخرى، الا أنه اعتمد هنا على مجموعة أصدقاءه فى الجيش بالاضافة الى رون بن يشاى الذى كان من نقاط الضعف أيضا -لاحظوا المشهد الذى يمشى به متجنبا الرصاص- والعديد من التفاصيل على جعلت الفيلم يميل أكثر الى الروائية على الوثائقية الا أن السيناريو - مع هذا- لا يزال يحمل فى طياته فكرة مثيرة للأهتمام الى حد بعيد وبعض الحسنات التى دعّمت البنية الروائية للفيلم ويظهر ذلك فى الخط السردى الرئيسى فى رحلة المخرج للبحث عن تفسير لحلمه ويأخذنا من هنا فى عمق فلسفى لمحاولة استيحاء الدلالة الرمزية لما يراه المخرج، لكن مع ذلك لا يحاول السيناريو التعمق فى الأسباب أكثر من ذلك ويكتفى برمزية ذلك الحلمه.


- البطل الحقيقى لهذا العمل من وجهة نظر شخصية هو ارى فولمان (المخرج)، اجواءه البديعة هى ما أكسبت هذا العمل رونقه الخاص فهو يقدم تمازجا رائع بين الأجواء السيريالية متمثلة فى تضارب الألوان التى تعطى مقدار كبير من القتامة والكأابة مما يدعم فكرة الذاتيه التى تحدثت عنها بالأعلى وبين المشاهد الواقعية فى تصوير الشهادات الواقعية على المجزرة، يصور لنا بحرفيه كبيرة -مراهقة- جنود الجيش الاسرائيلى و حالة الجهل التى أصابتهم -حسب وجهة نظر الفيلم- لقطاته لشارون التى تلقى بالمسؤلية على المؤسسة العسكرية، تكوين مشهد الحلم البديع حين يرى المخرج نفسه خارجا من البحر -ومعه اخرين- عراه مما يؤكد على فكرة المراهقة التى يتبنّاها الفيلم كوسيلة للعلاج، كل تلك المشاهد صنعت تكوينا بصريا مميزا يستحق التقدير.


- بشكل عام يمثل (الرقص مع بشير) تجربة مميزة باعتباره أول فيلم وثائقى ينفّذ باسلوب الرسوم المتحركة، ويبقى فيلم جدير بالمشاهدة